ربما يُدرك الأهالي الذين يتسوّرون مداخل تلك الأودية الذهبية بولاية نهر النيل، ربما يدركون ولو بعد حين أن (نعمة الأمن) هي أغلى من أي سلعة أخرى، أغلى من النفط والذهب وكل المعادن، فكل السلع تُشترى وتُباع إلا الأمن، ونظرة سريعة إلى إقليم دارفور المضطرب ستُغنيك عن أي معادلة أخرى. فالحركات المسجلة في (مونديالات الدوحة) قد بلغت عشرين حركة، وذلك غير الحركات الموقِّعة والحركات التي ترفض أن تذهب إلى الدوحة، وذلك مثل حركة عبدالواحد محمد نور التي تتخذ من باريس نُزلاً وسكناً لها، فالدوحة وحدها قد أبدت استعدادها لانفاق ملياري دولار، وإجتماع أمس الأول بالقاهرة الذي رعته الجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي، قد تحدّث هو الآخر عن ملياري دولار أخرى للإقليم. (ولو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم)، إن لم تدركهم العناية الإلهية، فيؤلِّف الله بين قلوبهم، لقد كان رأسمالنا الباهظ الكبير حتى الأمس القريب هو الأمن، الذي هو أحد أضلع السعادة البشرية، يقول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، «من أصبح آمناً في سِربه عنده قوت يومه معافى بدنه كأنما حِيزت له الدنيا بحذافيرها». فحتى الأمس كان يقول لي صديقي التشكيلي عبدالمنعم الزين (أخشى أن يكون هذا الذهب الذي تدفّق في منطقتكم مؤامرة لإلحاق آخر الولايات أمناً بركب حالات الاضطراب)، برغم أني لم أعرف على وجه الدقة (إن كانت الطبيعة هي التي تتآمر علينا) ولكن الذي أعرفه ولايعرفه الكثيرون هو أن للشيوخ أحوال وتجليات)، فصاحب هذه الملاذات ينتمي إلى (المنطقة الذهبية)، بمعنى أن مضاربنا أصبحت كما لو أنها ميقات إحرام لحجاج الذهب الذين يتدفقون من كل فجٍ عميق (ليشهدوا منافع لهم) فهؤلاء المُنقِّبون يرتحلون شمالاً، فحتى إذا ما بلغوا مضاربنا (يضربون الأودية شرقاً) فبعضهم ينقلب كيوم ولدته أمه، لم يعثر على شيء، وبعضهم كالطيور، تغدو خماصاً تروح بطاناً. ولكن الذي أضرب له أكباد (إبل ملاذاتي) هنا هو سلعة الأمن وليس الذهب. فمضاربنا هذه التي أصبحت تُصدِّر مع الذهب (أخبار القتل والموت)، فهي من حين لآخر تُغذي (مينشيتات) الصحف وتهوِّل خطوطها الحمراء بالقتل، هي لم تعرف تأريخ هذه الثقافة، صحيح أنه لاذنب لنا فيها سوى أن مضاربنا وأوديتنا وولايتنا أصبحت تستضيف هذه الجرائم البشعة، فالقاتل والمقتول وآليات القتل كلها قد هبطت علينا مع هذه الجيوش الجرارة من الباحثين عن الثراء، ونحن يومئذ نتكئ على مجتمع متسامح كريم لايعرف غير الضيافة والكرم. فهذه مهنة أهلنا الأصلية فلهذا لم ولن نحول بين هؤلاء وأمانيهم في الثراء، لكن في المقابل (نرفض نحن نموت) ونرفض أن تكون مراتعنا وأوديتنا وجزرنا التي حتى الأمس تُصدِّر القُنديلا والأمل والحياة، نرفض أن تصبح مصدراً ومسرحاً لهذه الجريمة الغربية، نرفض أن نستضيف جرائم الموت والقتل والنهب. نرفض أن تُغتال سماحتنا، نرفض أن يغتال بعضهم أعز ما نملك، ونرفض أن تُستباح سمعتنا وأن نُفجع في كل يوم جديد بأخبار (القتل والموت). فخذو دهبكم ومعادنكم وأعطونا أمننا وسماحتنا، خذوا كل ما تريدون وأتركوا لنا أمننا وهدوءنا.. حتى الأجهزة الحكومية لم تأخذ من هؤلاء القادمين ما يُصلح البيئة التي يدمرونها. فنحن لم نتعافى بعد من فاجعة الموت التي حدثت منذ أسابيع (بوادي قبقبة) شرق مدينة أبوحمد، حتى فُجعنا يوم أمس بحادثة إغتيال بشعة شرق مدينة العبيدية، فالموت والقتل أصبح يسود مضاربنا الآمنة ويتربّص بنا بحيث يتمكن الذين يقتلون بأسمنا، أن يغزوا وسائل الإعلام بهذا القتل الذي تشهده منطقتنا ولاذنب لنا سوى هذا الكرم الحاتمي باستضافتنا الجريمة التي تُرتكب باسمنا، فلهذا الكرم حدود فلن نكون دارفوراً جديدة، فعلى الحكومة أن تتدخّل وإلا لنا شأن آخر.