عزمي عبد الرازق يكتب: هل نحنُ بحاجة إلى سيادة بحرية؟    الأقمار الصناعية تكشف مواقع جديدة بمطار نيالا للتحكم بالمسيرات ومخابئ لمشغلي المُسيّرات    اهلي جدة الاهلي السعودي الأهلي    أهلي جدة يصنع التاريخ ويتوج بطلًا لنخبة آسيا    فاز بهدفين .. أهلي جدة يصنع التاريخ ويتوج بطلًا لنخبة آسيا    بتعادل جنوني.. لايبزيج يؤجل إعلان تتويج بايرن ميونخ    منظمة حقوقية: الدعم السريع تقتل 300 مدني في النهود بينهم نساء وأطفال وتمنع المواطنين من النزوح وتنهب الأسواق ومخازن الأدوية والمستشفى    التلفزيون الجزائري: الإمارات دولة مصطنعة حولت نفسها الى مصنع للشر والفتنة    وزير الثقافة والإعلام يُبشر بفرح الشعب وانتصار إرادة الأمة    السودان يقدم مرافعته الشفوية امام محكمة العدل الدولية    عقب ظهور نتيجة الشهادة السودانية: والي ولاية الجزيرة يؤكد التزام الحكومة بدعم التعليم    هل هدّد أنشيلوتي البرازيل رفضاً لتسريبات "محرجة" لريال مدريد؟    "من الجنسيتين البنجلاديشية والسودانية" .. القبض على (5) مقيمين في خميس مشيط لارتكابهم عمليات نصب واحتيال – صورة    دبابيس ودالشريف    النهود…شنب نمر    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (ألف ليلة و....)    منتخب الضعين شمال يودع بطولة الصداقة للمحليات    الرئاسة السورية: القصف الإسرائيلي قرب القصر الرئاسي تصعيد خطير    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صورتان للملكة آمنة
نشر في الأهرام اليوم يوم 27 - 03 - 2010

اقترب الطاهي المكلَّف من الدار، كان الحراس يقفون، حيّاهم هامساً وأعرب عن هويته، أفسحوا له فدخل، قاده رجل من الفناء إلى غرفة كبيرة، دفع الرجل باب الغرفة وتأخر، تقدم الطاهي داخلاً ولكنه لم يلبث أن أجفل، تماسك ثم تقدم، كانت هناك سيدة مهيبة قد استوت جالسة في السرير النحاسي الضخم، بارعة الحسن، ذات جلال وفخامة، تبدو وقد تجاوزت الأربعين، ذهبية اللون، واسعة العينين، ذات ضفائر غليظة ترتمي على كتفيها. كانت تتزيّن بكثير من الحلي الذهبية، أساور ضخمة، وقرطين مستديرين، يتدليان أسفل الخدين. ردت تحيته باقتضاب؛ فهدأ روعه، وأخذت تتحدث معه في الشأن الذي جاء من أجله، وفي تلك الأثناء كانت هناك وصيفة تحمل مروحة من ريش النعام وتقف إلى جانب السرير الذي تتناثر فوقه المطارف والحشايا.
حين كان الطاهي المكلف يصف ذلك المشهد؛ خِلته يقرأ في صفحة منتزعة من كتاب ألف ليلة وليلة، أو نصٍّ مكتوب عن إحدى الكنداكات في زمان مملكة مروي القديمة، أو كأنه يعيد على مسامعنا ما كتبه الرحالة بروس حين زار شندي في القرن الثامن عشر، ووصف الملكة ستنا، ذلك الوصف الذي جسده الرسامان جحا وعلي عثمان حين رسما المرأة السودانية في ذروة أمجادها التاريخية، وكما عبّر المجذوب (المرأة التي تغنت الحقيبة بأوصافها ومحاسنها).
كانت تلك هي الملكة آمنة، التي حلت ضيفة على منزل العمدة محمد التوم، عمدة مدينة كوستي في عام 1928 بأمر من سلطات المركز، وقد تم إخلاء الدار وتهيئتها بالصورة التي تليق بمقامها السامي الرفيع. كانت رهينة المحبس، ويقوم على حراستها نفر من الشرطة ريثما تجرى معها التحقيقات، تمهيداً لمحاكمتها بالتهم الموجهة إليها.
عاش الطاهي المكلَّف، العم أحمد ود القور، حتى عام 1982م ليروي لنا ذلك المشهد الفريد، ولو لا تلك السانحة؛ لذهبت به الأيام، وانطوى إلى الأبد. حدثني العم ود القور كيف أن السلطات الحكومية أسندت إليه مهمة الطبخ لهذه الشخصية الأسطورية. كان لا يزال شاباً ممتلئاً بالحيوية والعنفوان، فكان يحضر يومياً لإعداد الطعام الفاخر لجلالة الملكة، وكانت وجباتها في الغالب تتكون من الدجاج وأفراخ الحمام ولحم الضأن، والحساء والخضروات. وبعد الفراغ من مهمته عصراً؛ يستأذنها في الخروج؛ فتمد يدها إلى كيس قريب من وسادتها وتناوله جنيهات ذهبية دون أن تعدها؛ فيأخذها وهو يتمتم بعبارات الشكر ويخرج، ليعود في صبيحة اليوم التالي فيتكرر المشهد ثانية. وظلَّ على هذا المنوال حوالي ثلاثين يوماً حتى تم ترحيلها إلى مكان سجنها، وتحدَّث ضاحكاً بأنه لم يضيع تلك الثروة، بل شيّد بها داراً في الحلة القديمة بالطوب الأحمر، وادَّخر ما تبقى، فانتفع به خلال سنوات ماحلة.
كنت ألتقي بالعم ود القور أحياناً حين أكون جالساً في مكتب صديقنا وأستاذنا الراحل محمد ميرغني بركة، عليه الرحمة. كان بركة قد تقاعد في أوائل سنوات الثمانين، واتخذ مكتباً له في المنطقة الواقعة شمال السوق، كنا نلتقي فيه أحياناً مع عدد من الأصدقاء حين كان ود القور رئيساً للطباخين في داخلية مدرسة كوستي الأميرية الوسطى في أوائل سنوات الستين، كنا طلاباً فيها كما كان الأستاذ بركة معلماً يدرسنا اللغة الإنجليزية، كنا في القسم الخارجي، إلا أننا نعرف ونصادق جميع عمال المدرسة بمن فيهم طاقم المطبخ : ود القور، ومحمد، ويحيى.
وكشف لنا ود القور ذلك النهار أنه عمل طاهياً للملكة آمنة، وروى لنا ما رآه وما أتيحت له معرفته، لم يكن حديثه ذاك جديداً على أذني، فقد سمعت أطرافاً من أخبار تلك السيدة العجيبة من بين القصص والحكايات وأحداث التاريخ التي كانت ترويها لنا الوالدة التي كانت تتدفق ينبوعاً من الحديث في تلك الليالي السعيدة، وما زلنا مدينين لها عليها الرحمة والمغفرة فقد ظلت مصدراً أساسياً في تكويننا المعرفي والوجداني، وطاقة ديناميكية شحذت ذواتنا وحددت توجهاتنا.
كانت قصة الملكة آمنة وما زالت جزءاً من تاريخ المدينة، وما زالت الذاكرة تستعيدها كلما ساقتنا الظروف قرب دار العمدة ود التوم في الطرف الجنوبي لحي المرابيع، كما كنت قد قرأت ما لا أذكره الآن مما كتبه الدكتور مصطفى مبارك مصطفى عن الملكة آمنة، وما اشتجر بينه وبين الراحل الطيب محمد الطيب من سجال حول هذا الشأن، ومصطفى باحث وقاص ظل يبدي اهتماماً عظيماً بمدينة كوستي التي نشأ وترعرع بين ربوعها في حي المرابيع الذي استضاف الملكة يوماً، وإن كان ذلك قبل ميلاده بسنوات. ومعظم القصص القصيرة التي كتبها مصطفى مبارك تدور أحداثها في تلك المدينة التي أحبها، وأذكر أن الطيب محمد الطيب أشار أيضاً إلى أن مصطفى لا بد أن يكون قد استقى كثيراً من المعلومات من عمه الإداري الشهير مكاوي سليمان أكرت، الذي كان عليه الرحمة كنزاً من المعارف والمعلومات.
أما المستر جاكسون مفتش مركز حلفا؛ فقد قدم صورة أخرى للملكة آمنة، رآها في الحبس حين قدم منقولاً إلى المركز، كانت تقيم في دار مكونة من ثلاث غرف تقضي فيها عقوبتها بالسجن. كتب عنها انطباعات عابرة في كتابه (السودان.. أيام ومسالك) لم يحاول أن يتناول قضيتها ويغوص في تفاصيلها، ذلك على الرغم من أنه أدرك أنها شخصية مختلفة لا تماثلها امرأة أخرى من نساء بلادها. امراة تتميز بالجرأة والشجاعة، ذات جبروت وسطوة. قال إنها كانت تخيف جميع سكان تلك المنطقة، حتى أنها أمرت بطرد جميع سكان قرية إثيوبية كانت في الجوار، وصف حالها عند اعتقالها، حين أطبق عليها مستر مكلارين وجنوده يحاصرون دارها ذات ليلة، ظلت رابطة الجأش رغم الاضطراب الذي ساد منزلها، والخوف الذي اعترى أعوانها، أصرت على ارتداء حذائها بكعبه العالي، وجواربها الحريرية، لم تكتف بذلك، بل رفضت التوجُّه مع مكلارين حتى وضعت شيئاً من البودرة على أنفها، واعتمرت قبعتها. سلوك أوروبي لا ريب أنها اكتسبته من أوساط أرستقراطية الأمهرة خلال إقامتها في إثيوبيا، فقد كانت قرينة خوجلي ود الحسن، الذي هاجر آباؤه إلى الحبشة خلال أيام المهدية، وينحدر أسلافه من المتمة. قال جاكسون إن خوجلي كان يتظاهر بالاستقامة في العمل التجاري، ويبدي استعداده للعاهل الإثيوبي بدفع ألف أوقية من الذهب إذا تم ضبطه في إحدى المخالفات. بعث خوجلي ود الحسن بزوجته لتقيم داخل الحدود السودانية فاتخذت إحدى القرى مقراً لها، واعترفت الحكومة السودانية بوجودها حين عينتها عمدة، يمتد سلطانها في رقعة واسعة تجاوزتها هي بنفوذها وسطوتها، وأحكمت سيطرتها على الأهلين المساكين. وصف جاكسون استقبالها لمفتش المركز الإنجليزي حين كان يزورها فتحيطه بمظاهر الفخامة والترف وتقيم سرادقاً فاخراً تفرشه بأنواع من السجاد النادر تتناثر عليه أرائك أنيقة جاءت بها من إثيوبيا، وقال إنها كانت تتحدث العربية وتفهمها بشكل جيد، إلا أنها كانت تصر على التحدث بالأمهرية حتى تتعرف على مضيفها بشكل وطيد. كانت تتظاهر بأنها ممثلة للحكومة إلا أنها في الواقع كانت وكيلاً لأعمال زوجها الذي وصفه جاكسون بالوضاعة والمكر إذ استطاع تفادي الوقوع في يد السلطة لسنوات طويلة، ولما أحس أن الأرض باتت تميد تحت قدميه؛ بعث بزوجته إلى داخل الحدود السودانية للتوسع في تجارة الرقيق التي استطاع من خلالها أن يجمع ثروته الطائلة. لقبها بالست، ولم ترد كلمة الملكة في ما كتب، لقب الملكة كان متداولاً في الأوساط السودانية، أما الإنجليز في تقاريرهم فكانوا يكتبون «الست آمنة». وصفها جاكسون بالمجرمة، إلا أنه لم يستطع تجاهل مظاهر العظمة الملوكية التي كانت تحيط بها نفسها، ولا الضجر الأرستقراطي الذي كانت تعبر عنه بضيقها وتبرمها من جفاف الطقس في حلفا.
كان جاكسون قد عمل إدارياً في حكومة السودان منذ أوائل القرن العشرين، وقد أحب هذه البلاد وكتب عنها بشغف وحماس وقد تنقل ما بين أم درمان والحلفاية والكاملين وسنار ومناطق الشلك والنوير في جنوب السودان، وقد رسم صوراً قلمية نادرة، وفي عام 1929م تم نقله مفتشاً لمركز حلفا حيث وجد الملكة آمنة سجينة في تلك المدينة وأفسح لها في ما بعد صفحتين في كتابه « سودان.. ديز آند ويز» وقد صدرت طبعته الأولى في أبريل عام 1954 ولم يترجم حتى الآن، وقد صدرت له مؤلفات أخرى هي (عثمان دقنة)، و(سن النار)، و(العاج الأسود والأبيض)، والنوير في أعالي النيل، و(السودانيون المقاتلون)، و(غردون باشا) وهو الكتاب الوحيد الذي تمت ترجمته إلى العربية وما زلت ألهج بالشكر لابن شقيقتي الأستاذ صديق مصطفى أبو قرجة الذي أتاح لي فرصة قراءة هذا الكتاب من بين كتب أخرى عن السودان حملها إليّ عند حضوره من الولايات المتحدة في إجازته الأخيرة.
في أوائل عام 1928 وقع حادث قتل في منطقة تقع جنوب غرب مركز كوستي، أفضى ذلك الحادث إلى تطورات أدت إلى كشف أمور خطيرة كانت تجري في تلك المنطقة، فالرِّق كان قائماً كأن لم يمر أكثر من ربع قرن على إلغائه بموجب اتفاقية عام 1899م. تلك الاتفاقية كانت قد ألغت الاتجار في البشر، إلا أنها سمحت بتدرج تحرير الرقيق المنزلي لاعتبارات اجتماعية، وقد توقفت بالفعل تلك التجارة البغيضة، ولم تبرز مشكلات بهذا الشأن حتى انكشف المستور في تلك المنطقة. دفعت سلطات مركز كوستي بشرطتها إلى مكان الحادث الذي كان ضحيته رقيقاً قتله سيده، فكشفت التحقيقات عن وجود عدد كبير من الرقيق كان يصل إلى ذلك المكان من داخل المناطق الحدودية، وقادت التحقيقات إلى أن هناك سيدة تدعى آمنة يلقبها الأهالي بالملكة تدير تجارة غير مشروعة من داخل مملكتها الصغيرة، كانت تبسط نفوذها على الأهالي البسطاء وتستغل بؤسهم وسذاجتهم بالتصرف في أبنائهم ببيعهم إلى وسطاء أو مشترين قادمين من مناطق النيل الأبيض. استمر الحال لسنوات عدة حتى تم الكشف عن ذلك النشاط الخطير. كما كانت تمارس نشاطاً تجارياً آخر للتغطية على تجارتها الآثمة فتقوم بتعدين الذهب بعد الحصول على التبر من الوديان ومساقط المياه المتدفقة من الهضبة الإثيوبية وتصنع جنيهات من الذهب عليها ختمها تحاكي بها جنيهات الذهب الإنجليزية.
نشطت سلطات مركز كوستي واندفعت شرطتها في البوادي الجنوبية والجنوبية الغربية للبحث عن ضحايا تجارة الرقيق فاضطربت المنطقة وأخذ مالكو الرقيق في إخفائهم في الغابات والوديان وبمختلف الأساليب وعلى الرغم من ذلك تم القبض على عدد من الآثمين فأودعوا السجن في مدينة كوستي وتم تحرير عدد كبير من الرجال والنساء من ربقة العبودية فخرج بعضهم من سلطان سادتهم وأقامت لهم الحكومة مستوطنات لإيوائهم.
وكانت الحكومة قد أنشأت لجنة عرفت بقلم تحرير الرقيق، وأسندت رئاسته للمستر آركل الذي جاء إدارياً ثم ما لبث أن تحول إلى عالم آثار قدم خدمات جليلة وفتح طريقاً للدراسات الأثرية في السودان.
شاهد الناس في تلك الفترة مستر آركل يزور القرى حاملاً أوراق الحرية متحدثاً عن ضرورة القضاء على استعباد الناس إذ لا فرق بين أسود وأحمر وأبيض، ولكن كثيراً من هؤلاء الأرقاء رفضوا تسلّم تلك الأوراق باعتبارهم أحراراً يقيمون مع سادتهم السابقين بكامل إرادتهم كأهل لهم. وأقامت الحكومة مستوطنات للأرقاء السابقين أو الأحرار الجدد مثل أسودا وأم هباب وبابنوسة، وتجمع غيرهم في قرى أطلقوا على بعضها أسماء بذيئة للإساءة لهؤلاء السادة وقد أطلق الأهلون عليهم (رقيق أركن) يقصدون مستر أركل الذي أشرف على تحرير الكثيرين منهم.
وتم اعتقال عدد كبير من المالكين الذين ينتمون إلى ثلاث من القبائل التي تقيم في بادية النيل الأبيض ولم يستطع البعض منهم تحمل ظروف السجن القاسية فماتوا، وهم الذين اعتادوا على حياة الدعة يتناولون كميات من الحليب والزبدة والقشدة بالإضافة إلى لحوم الطرائد كالزراف والغزلان والأرانب ودجاج الوادي التي كانت تعج بها غابات المنطقة في ذلك الزمن البعيد.
وفي تقرير كتبه مدير مديرية النيل الأبيض في 15/مارس/1929م إلى السكرتير الإداري، جاء (إنه في وقت مبكِّر من عام 1928 تم في المركز الجنوبي للمديرية اكتشاف عدد من الأرقاء من قبائل البرتا المستوردين حديثاً من إثيوبيا ونتج عن ذلك استعادة 500 رأس رقيق وأطفالهم، وبينهم عدد كبير جرى استيراده منذ الحرب، وصدرت أحكام بالسجن على بضع مئات من الضالعين في تجارة الرقيق، وجرى تبيان طرق قوافل الرقيق من الحبشة وكشف شعابها ومخابئها وأرسلت المعلومات للمديريات الأخرى، خاصة مديرية الفونج. ولضمان تسجيل كل الأرقاء المسترقين حديثاً، تقرر تسجيل كل السود المنحدرين من صلب الرقيق كما تقرر إصدار أوراق الحرية لكل من يتطلب وضعه نوعاً من الحماية ولكل شخص آخر يطلبها).
أما مدير مديرية الفونج؛ فقد كتب إلى السكرتير الإداري في 24فبراير 1929 يقول (يبدو أن الوطاويط على جانبي الحدود قد استجابوا للأمر، لكن ما هو جدير بالإشارة حقاً أن كل حالات الاسترقاق لم تشمل أشخاصاً يقيمون في السودان، كان كل الأرقاء من إثيوبيا إضافة إلى ذلك فتجارة الرقيق بجملتها كانت في أيدي عائلة خوجلي ولم تحدث أية حادثة ذات أهمية من «الشيخ تورا قور» أو الشيخ حمدان أبو قور؟ تم اعتقال الست آمنة وقدمت للمحاكمة وأدينت وألغيت عموديتها، وانسحب أقاربها إلى إثيوبيا، كما تم اعتقال الوطاويط المتورطين وأرسلوا إلى كوستي للمحاكمة، وهرب آخرون إلى إثيوبيا وانفضح أمر عمدة بلوارا وجرِّد من العمودية، وبشكل عام يمكن القول، دون مبالغة، إن تجارة الرقيق قد انقضت).
خرجت شرطة مركز كوستي إلى البادية الجنوبية للمركز حيث الرعاة يجوسون الفلوات بقطعان الماشية، كانوا يبحثون عن إفادات تعزز الاتهامات المتعلقة ببيع الرقيق، عثروا على شابين يرعيان قطيعاً من الماشية، استجوبوهما فقاد الحديث إلى الكشف عن جريمة ظلت غامضة لأكثر من اثني عشر عاماً، ففي حوالي عام 1916م خرج علوان وعساكر (من قبيلة سليم) يصحبهما الختيم بانديه (وهو تعايشي) إلى المنطقة الحدودية بين السودان والحبشة لشراء أسلحة نارية، ولما كان علوان يملك من المال أكثر من صاحبيه؛ فقد اشترى رقيقاً (صبيين وفتاة) وفي الطريق تآمر الاثنان على علوان فقتلاه على مرأى من الأسرى الصغار، باع القاتلان الولدين لرجل من الجمع يدعى إبراهيم الشاهر والفتاة لأحد شيوخ العليقة، انتابت الشكوك ذوي القتيل علوان وذهبوا يقتفون أثر الرحلة الدامية ولم يعثروا على دليل فأبلغوا سلطات مركز كوستي التي باشرت تحقيقاً مع عساكر وبانديه ولم تجد دليلاً قاطعاً فأطلقت سراحهما وظل البلاغ مفتوحاً حتى عام 1928 حين عثرت الشرطة على الغلامين يرعيان أبقار الشاهر فاعترفا بما رأياه من جريمة وجيء بالفتاة بخيتة من قرية العليقة لتعزيز شهادة الغلامين والتعرف على المتهمين اللذين لم يلبثا أن أدينا ونفذ فيهما حكم الإعدام وكان أحدهما قد عمل شرطياً في أعقاب ارتكاب الجريمة وحتى قبيل حدوث تلك التطورات الدرامية.
لم تشأ بخيتة أن تتوجه إلى مكان آخر عقب إبلاغها بتحريرها ولم تأبه لذلك بل توجهت عائدة إلى العليقة لتستأنف حياتها في تلك القرية فقد ألفتها وألفت الشيوخ الطيبين الذين أولوها رعاية حسنة ومنحوها عطفاً وإحساناً. تميزت بخيتة بجمال بارع وقوام لادن حتى أطلق عليها الناس في القرية لقب الفريع، تزوجت وأنجبت وعاشت طويلاً حتى شهدت أحفادها جزءاً من نسيج الأعراق السودانية بنموذجه الإنساني المدهش.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.