على متن طائرة مارسلاند كان الأمين العام للمؤتمر الشعبي الشيخ حسن الترابي يراجع بعض الآيات القرآنية من مصحف يحمله في حقيبة السفر، وتلك عادة لا تفارقه، وقد جلس بجواره مرشح الحزب لرئاسة الجمهورية «عبد الله دينق نيال» يقرأ في بعض الصحف اليومية، وقد ترك مقعده لمواصلة القراءة، فاستأذنت في أن ألقي على الترابي بعض الأسئلة حول المشهد الانتخابي الحالي وهو صاحب خبرة سياسية ويمتلك ناصية التغيير بحسب الحسابات التي يضع معادلتها في كثير من الأحيان إن لم أقل غالبها. تحولت من المقعد وجلست إلى جواره، كانت الطائرة على ارتفاع (26) ألف قدم فوق سطح أزمات السودان التي تتجدد بين الحين والآخر، وكانت المضيفة (سلمى) والمضيف (زرياب) و(ابتهال) يراقبون حركتي لإجراء الحوار قبل نصف ساعة من هبوط الطائرة بمطار الخرطوم.. تحذيراتهم المتكررة لي بربط حزام الأمان لم أنتبه إليها بعد أن بدأ الشيخ الترابي في الإجابة على الأسئلة حول الواقع الحالي، ولم يقف من الحديث إلا وعجلات الطائرة تلامس مدرج مطار الخرطوم الدولي بعد أن وصلنا من مطار الفاشر عاصمة شمال دارفور، وبعد أن فتحت أبواب الطائرة للنزول.. وكانت هذه الإجابات: { كيف تقرأ المشهد الانتخابي الحالي في السودان مع تذبذب مواقف الأحزاب بخصوص المشاركة أو المقاطعة؟ - منذ أكثر من عقدين من الزمان هي فسحة في الحريات العامة والتبادل الحر للرأي في مجال من التنافس في سبيل السلطة، وهي شهوة تدفع الكثير من الناس بعد انكبات متطاول في موسم انتخابات شامل للولايات من الحكم الوطني إلى رأسه جملة واحدة، وهو أمر لم يعهده السودان في الانتخابات من قبل، وهي تكاد تكون تقرير المصير إلى أن ندفع للسلطة من يواجهون ابتلاءات عسيرة في ما يستقبل السودان نحو الجنوب ونحو الغرب وفي الاقتصاد، والمشهد تتجلى فية جالية دفع أفواج من الكهول والشباب لأول مرة يمارسون الانتخاب منذ بضع وعشرين عاماً، وبالرغم من أن الحريات منكبتة شيئاً ما وعروض الخيارات للناس ظالمة وجانحة لصالح من يتمكنون الآن في السلطة، وبالرغم من ذلك كل هذه الدفوع والظواهر وكل هذا الابتلاء في وجه كل هذه التحديات تجلت ظاهرة هامة في تاريخ السودان، ولا يستطيع أحد أن يتنبأ بغيب نتائج الانتخابات، لا سيما أن كثيراً من القوى السياسية قد ظلت تتذبذب وهي مقبلة على حملة الانتخابات والمنافسة، تحاول أن تجدد عهوداً وهنت مع قواعد ولاءاتها متقادمة، وأن من في السلطان تدفعه دفوع أجنبية كذلك يحاول أن يفوز بالولاية العامة للوطن لعل ذلك يغشي عليه حصانة من ملاحقات من العدالة العالمية، وإذا اعتبرنا بسوابق السودان ما كانت الانتخابات إلا نيابيّة وحسب - يقصد أن الرئيس لم يكن ينتخب مباشرة من الشعب كما هو الحال الآن - والسلطات كانت تستقبل حكومة لتسيير أمور السودان، وكانت تحركها قوتان تتألفان - الحزب الاتحادي وحزب الأمة - هذه المرة ستدخل إلى ساحة النيابة العامة في المجلس الوطني، والمجالس منظومات شتى لا ندري كيف تأتلف؟ حتي إذا ائتلفت ورتقنا صلاتها في حكومات إلى حين قد تنفتق بيسر في وجه دستور جديد، وقضية الجنوب قد تفلق البلد الى فلقتين، وقضية نحو الغرب وقضية الاقتصاد، وستظهر وجوه جديدة في السودان، قيادات القوى السياسية العليا تجاوزت السبعين كلها، ولو كان التطور يسير باضطراد في حرية لتجددت الأحزاب فاضطرت إلى أن تقدم مناهج متجددة وأن تدفع بوجوه متجددة حيناً بعد حين، وتلك سنة الحياة، ولكن هذا الكبت جمد الحياة وجمد حال السودان عموماً فأذله وحطه، وصارت وهدة في اقتصاده ومعاشه في كل شيء. { إذا طلبنا منك أن تجري تقييماً لآخر انتخابات شهدها السودان في العام 1986 وهذه الانتخابات الحالية، أيهما كانت أفضل؟ - طبعاً لم تسلم حتى الانتخابات الماضية من زور في التسجيل كثيراً، الناس كانوا لايدرون كيف يسجلون أسماءهم إن كانت للتموين يعصرونها ويحجبون كثيراً فلا تكلفهم، لأن للتموين يومها كانوا يبالغون في العدد، وإن كان التصويت أحياناً إذا قرأت بعض الدوائر قديماً وبعض المناطق يبدو لك أن السجل الانتخابي كان به تضخم فاحش، وهذه المرة الوعي أكثر بالرغم من الطوارئ تيسر لها للسجل الانتخابي في بعض المناطق وبالرغم من أن الذين في السلطة لأن هذه الانتخابات خلافاً للانتخابات التي جرت في الديمقراطية بعد الاستقلال وبعد اكتوبر وبعد الانتفاضة كانت تديرها حكومات ليس لها في مستقبل الحكم شأن ولا يتقدم للترشيح أصلاً من كان في الحكومات التي تحت ظلها لجان الانتخابات، كانت هي محايدة لا يتشبه بها إنسان، والمال العام لم يكن لأحد أصلاً، والإعلام العام كان مفتوحاً بسواء للناس، وبالرغم من ذلك لكن الوعي الآن يشتد والأجيال الجديدة اتصالاتها تيسرت وقد كانت الاتصالات عسيرة يومئذٍ، وسائل الاتصالات والوعي ازداد بالطبع، والمجتمعات القديمة قياداتها تقليدية بعضها توفاه الله وبعضها هاجر، والهجرة أحدثت تفاعلاً بين الناس، ونحن لم نبلغ درجة الكمال ولكن يمكن أن يحدث ذلك، كانت أحلامنا في أول الإنقاذ - الانقلاب الذي نفذته الجبهة الإسلامية القومية في 30/6/1989 واستلمت بموجبه مقاليد الحكم في السودان - أن نمضي عاجلين إلى نظام انتخابات للعالم نقدمه من أميز النظم، يقدم الناس سواء الغني والفقير، في الإعلام العمل كله سواء على حساب مفوضية الانتخابات والدولة إلا في الصلات الخاصة التي يمكن أن يتفاوتوا فيها، كان يمكن أن نقدم نموذجاً مثالياً ولكن استمرت السلطة المتجبرة حيناً، والانتخابات دخل فيها نظام جديد هو الانتخاب النسبي الذي يقدم برنامج الأحزاب وليس الأشخاص والولاءات والتاريخ، طبعاً برنامج للمستقبل، وإدخال النساء كذلك نصف المجتمع كان خارج الساحة إلا قليلاً، وبالرغم من أنني أرجو أن تظهر وجوه جديدة لكن الأزمات أمامنا عسيرة جداً، فأنا أخشى على السودان. { «مقاطعاً له»: كيف من الممكن أن يكون هنالك استقرار سياسي في السودان من خلال نظام معمول به ومعترف به من الجميع في ظل التزام بدستور دائم لا يتم حله مع كل حكومة جديدة في البلاد؟ - طبعاً إذا الأجيال الجديدة التي خرجت يمكن أن تعتبر بكل عظات الماضي ولا تفتنها السلطة بعد أن شاعت المادية الآن بين الناس وأصبح يمكن أن تفتنهم السلطة كما فتنت الموجودين فيها الآن، نريد هذه المرة بعد ثلاث دورات من الانقلابات والثورات الشعبية وديمقراطيات شكلية طارئة، لمرات تدوّر السودان وتقلب، ونحن نتمنى هذه المرة أن يستقر مسيره حتى ولو تقدم بطيئاً ولكنه مستقر، حتى إذا اضطرب تقدمه لا يتقلب، والعامل الدولي ينصب على السودان بقوة لأنه ضعيف، والانتخابات في العالم كلها الناس يتابعونها ويعلمون أن مصالح أي بلد آخر تقف على نتائج الانتخابات في أي بلد صغيراً كان أم كبيراً بقدر وزنه ووقعه في السودان لا سيما وأنه له جيرة واسعة وله سمعة بأزمة الجنوب وأزمة دارفور وأزمة الأصولية. في هذه النقطة جاء صوت نيكولاي، الروسي الجنسية، قائد الطائرة، عبر ترجمة المضيف، بتنبيه الركاب بأنه قد اقترب من مطار الخرطوم ودعاهم للجلوس في مقاعدهم بالطريقة الصحيحة وربط حزام الأمان وإرجاع طاولة الطعام إلى مكانها.. وواصل الشيخ الترابي إفاداته: ولو تبيّنا كل الابتلاءات وتبيّنا العلل في بلدنا والقوى السياسية، لربما تيسر لنا شيئاً ، لأن السودانيين في كثير من الأزمات السياسية وفي أزمات الاستقلال، كنا لا نخشى من الاستقلالية التي تجاوزناها بالوفاق، وأنا لا أريد أن أيأس من روح كهذه يمكن أن تغشى أهل السودان فتخرجهم بشيء من الاعتدال بقوى متعددة ومتنوعة في ظل ابتلاءات شتى اقتصادية وسياسية وخارجية للبلد، ولربما ليعبر السودان.