ساعات تفصلنا عن مرحلة الاقتراع وقد استبانت المعالم بجلاء، قوى المعارضة أكثرت من الذرائع حتى بلغ البعض منها موقف الانسحاب الجزئي والكلي أحياناً، والمؤتمر الوطني حرص على إنفاذ الانتخابات كوفاء باستحقاقات السلام قبل نهاية المرحلة الانتقالية ليؤسس لمرحلة جديدة قوامها إرادة الشعب، ولعله قد نجح في ذلك إلى حد كبير، ولكن ستظل الصورة مهزوزة في كثير من جوانبها في الأفق السياسي العالمي، لأن مساحة الحضور المعارض فيه تفوق في كثير من الأحيان مساحة الحضور الواقعي للتجربة السودانية فيها.. ولذلك فنحن في انتظار أن تبدأ مرحلة الاقتراع بقوة دفع تعبّر عن الثقة التي امتلك المؤتمر الوطني من ناصيتها لكنها تفتقد للحرارة التي يولدها التنافس الحقيقي، فالحركة الشعبية مثلاً ربما قرأت بوضوح أنها لن تحصل في الانتخابات العامة على ما حصلت عليه بالفعل في سياق استحقاقات السلام، ولن تكون في ذات الوقت لقمة سائغة للمؤتمر الوطني يبتلعها كيفما شاء، وكذلك لن تكون سبباً في عرقلة مسيرة السلام، ولهذا آثرت المشاركة الجزئية لتفتح الطريق أمام إنفاذ بقية مطلوبات السلام واحتفظت بخطابها الإعلامي الناقد لتبُقي على خطوط الوصل مفتوحة بينها وبين قوى المعارضة، وبين هذا وذاك كله أوجدت لنفسها المخرج المناسب من الهزيمة أو من الاتهام بأنها حجر العثرة أمام سياسة السلام. بقية الأحزاب قرأت بذات الحسابات ولكن بكيفية أخرى، فآثر بعضها الانسحاب الكلي وفضل البعض الآخر الانسحاب الجزئي لكنها لم تنجح في أن تُفقد الانتخابات مشروعيتها، بل على العكس من ذلك تماماً، فقد سجلت اعترافاً ضمنياً بجدارة للمؤتمر الوطني.. ولوّمت نفسها على غيابها من الساحة، لكنها لا تريد أن تتيح للمؤتمر الوطني فرصة أن يهنأ بما كسب، ولذلك ظلت تطلق في الأفق خطابها الساخن وتدير عبر صناديق الاقتراع منافسة انتخابية باردة. وبعد أن بلغت الأحزاب وأكملت جميعها مرحلة العرض العام لبرامجها وأطروحاتها في مرحلة ما قبل التنافس، الآن قرعت الأجراس إيذاناً ببدء عملية الاقتراع، والآن تتضح في الساحة مسارات تمضي فيها العقول والاتجاهات، لإنفاذ تجربة عشرين عاماً حفلت بالعطاء، وما قبلها ثلاثون عاماً أو يزيد من التجارب السياسية أيضاً حفلت بجوانب من العطاء وإن كانت هناك سلبية، فكل الأنظمة بلا استثناء عسكرية أم مدنية لم تخلُ من السلبيات. إذن فالأخذ والرد تعبّر عنه تيارات مختلفة تتصارع من أجل بلوغ السلطة، والإنقاذ ممثلة في المؤتمر الوطني هي حاضرة في هذه الانتخابات وممسكة الآن بخيوط السلطة ومساراتها، وتريد الفوز بالانتخابات كتطلع مشروع. مفوضية الانتخابات تحدث الناس كثيراً عن حيادها ودافعت هي كذلك عن نفسها كثيراً وتصدت لكل الحملات الإعلامية المتشككة، ولكن المعركة القادمة ستدخل المفوضية فيها في امتحاناً عسيراً. تلك هي العملية الانتخابية القادمة بكل تفاعلاتها مع محاذير من تجربة ودرجات حرارة متفاوتة من تفاعل وانفعال وأنفاس ساخنة وأخرى باردة تحفل بها الساحة السياسية، فالسودان خلال العقود الماضية التي أعقبت الاستقلال شهد عدداً من التجارب تأسست عليها المعادلة السياسية على امتداد التاريخ الحديث، وفي هذه الأثناء يبقى على الناخب السوداني أن يسترجع مسيرة أكثر من خمسين عاماً من الاستقلال وحتى الآن وثلاث تجارب ديمقراطية سبقت هذه التجربة التي نقدم عليها، فيها لم يكن التصويب في اتجاه الفكرة ولم يكن الاستقرار لخطاب الدولة السياسي ولم يكن الاستعداد حاضراً في أن ندفع بقيادات، ولكن كانت الأنا هي السائدة والمسيطرة على الساحة، وكانت السطوة هي الغالبة على الفكرة والمبدأ، ولذلك فشلت كل التجارب الديمقراطية السابقة لأنها لم تنطلق من رواسخ أو ثوابت يتحلق الجميع حولها بقواسم وطنية. الآن كل الاتجاهات السياسية أمامها الصناديق وأمامها مسؤولية تاريخية وأمامها عيون الشعب وقلوبه وآماله العريضة في تكاتف الكل لمجابهة التحديات، وليس المهم هنا الخاسر أو الرابح لأن الكل مدعو لبناء الوطن، وفي مسيرة بناء الوطن القادمة يجب أن نودع تماماً مفهوم: (من معنا فهو قديس ومن ليس معنا فهو إبليس) فما عادت هذه من مطلوبات المرحلة القادمة. إذن فالثلاثة أيام القادمات ستحدد كل شيء.. تلك هي أيام الاقتراع التي يجب أن نسميها أيام السودان المتحد والمتوافق، وأن من سيأتوا فائزين عبر الصناديق عليهم مسؤولية وطنية كبيرة إن لم يكونوا من أهلها فعليهم أن لا يدخلوها أصلاً، فنحن نريد للسلطة التي ستفرزها صناديق الاقتراع.. وللقيادات الجديدة أن تنظر أمامها ولا تنظر خلفها، وأن لا تعتبر الحزبية أكبر همها.. بل الوطنية ديدنها وأعظم شأنها، وأن لا تعتبر الحزب الغاية بل الوسيلة.. والغاية هي السودان الوطن الكبير الذي يسع الجميع، وأن يعتبر الجميع الصناديق القادمة ليست نهايات التحول السياسي بل بداية التحول الديمقراطي، ونقولها هنا: ليست القضية هي الوطني ولا الشعبي ولا الاتحادي ولا الأمة أو الشيوعي.. بل القضية الآن هي الوطن.