الآن وقد انتهت عملية الاقتراع وبدأت أيام العد والفرز والنتيجة النهائية، وعند إعلان النتيجة ليس المهم هنا الفائز ولا الساقط طالما أن الجميع قد مارس الحق الانتخابي بعد طول غياب وطلاق بائن مع هذه الثقافة. ولمن تكون الغلبة ليس المهم بقدرما المهم هنا هو تولي السلطة بالوسائل الديمقراطية، ومن أهم هذه الوسائل الديمقراطية التزام التعددية الحزبية؛ وذلك من خلال تداول السلطة سلمياً وديمقراطياً بعيداً وبديلاً عن العنف السياسي في حركة هذا التداول، حتى يكون التنافس القادم قائماً على الطرح الموضوعي في الأهداف والبرامج وقائماً أيضاً على إقناع الجماهير، كما أن المباراة القادمة بين أطراف التعدد الحزبي، حكومة كانت أم معارضة، يجب أن تكون قائمة على مثالية القيادة وحضورها كقدوة حسنة، وأن يتركوا النزاعات السياسية للقيادات الأخرى في أحزابهم وذلك في إطار برنامج وطني يُعلي شأن وقيمة مبدأ التعايش في ظل النظام التعددي الديمقراطي. ونعود أيضاً ونقول طالما أن الجميع قد مارسوا حقهم فإن الغلبة لأيٍّ كانت فهي مجال رضا عند البعض ومجال عدم قبول عند البعض الآخر، ولكن يبقى الملمح الإيجابي هنا هو الاختلاف بيننا والآخرين من دول العالم، فكلنا يعلم ما يصاحب العمليات الانتخابية في كثير من بلدان العالم في ما يعرف بعمليات تزييف الإرادة وفي ما يتصل بالتزوير الواسع، فلم تشهد انتخاباتنا إلا أخطاء فنية هنا وهناك وعمليات تزوير إن وجدت فهي بسيطة وسرعان ما تمَّ حسمها أو علاجها، ولكنها لم تكن سمة الانتخابات الغالبة ولا في جملة مظهرها الحضاري الذي حدث وشهد بذلك كل المراقبين الدوليين. بل أن حالات التفلت الأمني في المناطق التي يعرف بأنها تعيش توتراً أمنياً كانت العملية الانتخابية فيها سلسة وآمنة ومستقرة. إذن فأهل السودان جميعاً قد أسهموا وشاركوا في تشكيل هذه اللوحة، وحتى الذين لم يمارسوا حقهم الانتخابي تحت أي ظرف من الظروف إن كانوا مقاطعين أو غائبين أو كانت لهم أعذارهم المختلفة، فإن الذي مارس هذا الحق عبّر عن غالب الإرادة السودانية، ولذلك فإن مستقبل السودان رسمه أهل السودان بأنفسهم وذلك برغبتهم في أن يكون السودان آمناً مستقراً، والعملية في محصلتها النهائية هي تدفع بجرعة قوية لمحاصرة قضايا السودان الأخرى ومناطق التوترات أو تلك التي لم تحسم فيها قضايا النزاع، ولذلك فستجد الحكومة القادمة، إن احترمت تفويض الشعب، مساحة واسعة من الرضا والقبول لأنها لم تكن صنيعة إنقلاب عسكري ولا تزييف إرادة ولا صنيعة توتر سياسي، هذه هي المعطيات التي نستجلبها من هذه العملية السياسية لتعبّر عن الديمقراطية التي أعقبت واقعاً من التشتت والانقسام والتربص بالسودان، فشعب السودان يقدم الآن على مرحلة جديدة صنعها بنفسه ورسم من خلالها مسارات المستقبل، فالصوت الانتخابي الذي ذهب للصناديق يعبّر عن إرادة أمة تريد أن تحيا تحت النور بقوة دافعة نحو البناء والسلام والاستقرار. وعندما نعود لنتيجة الانتخابات التي نحن في انتظار إعلانها نقول إن الهزيمة عند الخاسرين للمنافسة هي ليست بأي حال من الأحوال نهاية للمستقبل السياسي، بل هي بداية وقوة بل من الممكن أن تفرز الهزيمة قوة، وفي كون أن المهزوم قد مارس حقه فهو في هذا بداية القوة التي نعنيها لأن هذه الممارسة تُهيّؤه للفترة القادمة. أما المنتصر فإن الشعور بالقوة بالنسبة له هو أمر طبيعي، أما التعالي فسيضعه في خانة المهزوم لأن المسؤولية الملقاة على عاتقه بعد الفوز هي كبيرة وتقابلها تحديات لا يمكن إيفاؤها بالتعالي، ولكن يمكن أن ينجزها بإبراز القوة التي تعبّر عن احترامه للآخرين، ويتمثّل هذا في رعاية مصالح الناس الذين منحوه هذا التفويض الكبير، ولذلك نتوقع أن يكون الأمر في مصلحة المهزوم الذي حتماً سيتّجه لإعادة ترتيب صفوفه في الجولة القادمة، وهو في مصلحة المنتصر أيضاً إذا أوفى بما وعد، ولن ولن يكون الأمر في مصلحته إذا ما امتطى صهوة التعالي. وأخيراً صوت الناخب يقول: نريد وزراء رمزاً للتوجُّه القومي، لا وزراء يخوضون في الصراعات الحزبية والجهوية كما شهدنا.