(مصر القريبة دي) عبارة سودانية يتداولها المثقفون أحياناً للتعبير عن بعض القضايا الرمزية والتأكيد على قرب المسافة وتشابه المصائر بين البلدين، وفي مصر هذه الأيام يدور جدل سياسي وقانوني متصل بخصوص قضية نائب الحزب الوطني الديمقراطى نشأت القصاص، التى طالب فيها باطلاق النار على الذين يطالبون بإصلاحات سياسية في البلاد وإعدامهم.. وكانت الصحف المصرية نشرت تقارير أكدت فيها أن نائب الحزب الوطني الديمقراطي (الحاكم) نشأت القصاص دعا، في أبريل المنصرم خلال اجتماع للجنة الدفاع والأمن بمجلس الشعب خصصت لمناقشة انتهاكات الشرطة ضد المتظاهرين، دعا إلى إطلاق النار عليهم. ونقلت الصحافة المصرية عنه قوله: (لا أعرف لماذا كل هذا الحنان من وزير الداخلية ضد الخارجين عن القانون)؟! قبل أن يعزز تساؤله بنيران ثقيلة في وجه الجميع: (لا ينبغي استخدام خراطيم المياه لتفريقهم، يجب ضربهم بالنار مباشرة)! وهي التصريحات التى تجاوزت مصر كقطر إلى التعبير عن بعض المخاوف في الوطن العربي بأن تتحول تلك اللهجة إلى رسائل سياسية معممة باستخدام العنف ضد المتظاهرين. وبينما لم يهدأ الغبار هناك.. جاءت أحداث الفاشر التي سقط فيها العشرات.. وحمّلت قوى المعارضة والي شمال دارفور المنتخب «عثمان يوسف كبر» المسؤولية وممارسة القمع ضد من تظاهروا للمطالبة بحقوقهم المنهوبة.. جاءت أحداث الفاشر كمقدمة للتعبير عن بعض المخاوف المماثلة. وبين مصر والسودان تدور طواحين الهواء، فالأزمات تبدو للكثيرين متشابهة حد التماهي بالمقارنة مع أقطار أخرى، فالممارسة التي حصد الهشيم فيها المضاربون فيما سُمِّي لاحقاً ب (سوق المواسير)، هي ذات الممارسة التي احتلت حيزاً كبيراً في الذاكرة المصرية ثمانينات القرن الماضي حينما تنامت ظاهرة شركات توظيف الأموال التي حملت مسميات (الريان) و(السعد) وغيرها، وهي في صيغتها مضاربات مالية عبر صيغ أقرب إلى الربوية استطاعت أن تجتذب الآلاف من المودعين وتستولي على أموال الغلابى والطامحين إلى الثروات، ولم تنس أن تداعب المقتدرين كذلك فتمكنت من النفاذ إلى شخصيات سياسية ودينية واقتصادية. هذه الشركات كانت قد وجدت دعماً حكومياً ومظلة سياسية من نافذين في الدولة شكلوا غطاءً لعملها، كما تمت الاستعانة برافعة دينية لغرض الإسناد الفقهي في مجال الفتاوى من مشائخ لهم مكانتهم وتأثيرهم، هذا طبعاً بخلاف الذراع الإعلامي والترويجي الذي وصل به الأمر إلى حد أن أحد مندوبي الإعلانات في صحيفة كبرى فتح مكتبه في الفجر لكي يوقع أحمد وفتحي الريان مع أشرف السعد اتفاق العمالقة، معلناً ذوبان الشركتين في بعضهما وتكوين كيان عملاق في السوق لنهب المزيد من أموال المودعين وتم نشر الإعلان في الصحف لكي يزف بشرى الاندماج! تكرار التجارب ما بين العاصمتين تفصح عنه المقولة التي كثيراً ما يتم ترديدها في السياج الإقليمي: إذا عطست دمشق أصيبت بيروت بالزكام.. أو: إذا عطست القاهرة أصيبت الخرطوم بالزكام. أزمة أحداث الفاشر وما صاحبها من تطورات مأساوية، استدعت في أذهان الكثيرين تصريحات (القصّاص). الأنباء حول القتلى والجرحى هناك تضاربت، ففي تقدير وكالة (رويترز) بلغ عدد القتلى(14)، وعدد الجرحى يتراوح مابين (30- 40)، في حين تراوحت الأرقام صعوداً وهبوطاً في وكالات الأنباء المحلية والعالمية. في القاهرة كانت تصريحات (القصاص) قد أثارت جدلاً سياسياً وقانونياً وضع مجلس الشعب والحزب الحاكم في حرج بالغ أمام الشارع المصري، وظلت وسائل الإعلام والمنتديات السياسية تتداول الأمر، ولم يجد الحزب الحاكم ونائبه البرلماني مفراً من الاعتذار للشعب المصري في بادرة سياسية تستحق الإشادة والانتباه. وفي الفاشر عبّر والي شمال دارفور عن دهشته لهذا التصعيد ورمى باللائمة على جهات سياسية لم يسمّها، وقال بيان للشرطة أنها وجدت مقاومة من المتظاهرين مما أدى إلى حدوث اشباكات اضطرت الشرطة لاستخدام الهراوات والغاز المسيل للدموع مما نتج عنه وفاة ثلاثة من المتظاهرين وإصابة عدد (25) إصابات خفيفة تم إسعافهم. غير أن الحادثة لم تكن هى الأولى في السودان، فقبل أعوام انفجرت الأوضاع في شرق السودان إثر مصادمات دامية وقعت بين آلاف المتظاهرين وقوات الشرطة والقوات النظامية الأخرى أودت بحياة (23 ) شخصاً بينهم طفل وجرح نحو مائة في مدينة بورتسودان، فيما أعلنت السلطات السودانية حظر التجوال في المدينة في مواجهة غضب المتظاهرين المحتجين على استبعاد شرق السودان من اتفاقيات السلام والمصالحة التي جرت ذلك العام في نيفاشا والقاهرة، وجرت تلك الأحداث في العام (2005) وعلى مقربة من ذلك فقد شهد العام (2007) أزمة مشابهة بخصوص قضية متضرري سد كجبار بشمال السودان حيث قُتل أربعة من مواطني المنطقة بالرصاص، وأصيب العشرات أثناء عبورهم للنيل متوجهين الى منطقة (جدي) منضمين لمجموعة أخرى فى مسيرة سلمية رافضة للآليات التى جاءت للمنطقة لبدء الدراسات لقيام السد، لتفاجئهم طلقات الرصاص والقنابل المسيلة للدموع وراح ضحيتها أربعة أشخاص، وهى الحادثة التى أثارت ردود أفعال هائلة وفتحت المزيد من الجراح والأسئلة بخصوص المظاهرات السلمية، فبينما ترى الجهات الرسمية أن المتظاهرين لا يلتزمون بالقانون وموجهات الشرطة التى تعمل على حمايتهم وتنظيم المسيرات، تعبّر منظمات حقوق الإنسان عن أسفها لمثل تلك الحوادث، وتؤكد أن التظاهر السلمي هو حق يكفله القانون وأنه تعبير سياسي مباح. ولعل الأزمة التى اشتعلت في مصر بعد أن سجلت مضابط مجلس الشعب المصري لنائب البرلمان نشأت القصاص قوله (يا أخي اعدم.. اعدم.. بلاش خراطيم المياه دي.. تضرب بالنار على طول.. تضرب بالنار.. والله كل المتظاهرين دول خارجون عن القانون) فإن الترجمة العربية لذلك القول تظل شاخصة تحت المجهر السياسي، وإن كان هناك سؤال ما انفك يواجه الأزمة وهو: هل يثور جدل بخصوص القوانين التى تكفل حق التظاهر في أول برلمان سوداني منتخب، أم تظل كل تجربة على حدة درس يجبه ما بعده ومن ثم يغتسل في ذاكرة الماء؟