ظهيرة العاشر من مايو 2008م، وعلى وجه التحديد مع انطلاق أولى الدانات من مدافع حركة العدل والمساواة على أم درمان، عاشت المدينة يوماً مدويّاً تعالت فيه أصوات الدانات والزخائر وتحليق الطارات وقصفها، عندها تناقلت مدينة الخرطوم بمدنها الثلاث وفي الرابعة من عصر السبت تحديداً الأحاديث عن هجوم لحركة العدل والمساواة بقيادة زعيمها د. خليل إبراهيم، وتأكد بعدها أن جيش الحركة الذي نفذ الهجوم اتخذ من الجانب الغربي للمدينة مدخلاً للتوغل الى عمق العاصمة الخرطوم والتخطيط للوصول الى مواقع استراتيجية بغية الوصول الى مباني الإذاعة والقصر الجمهوري، لم يكن بينهم والنصر سوى دقائق معدودة عند مدخل مدينة أم درمان وهى العاصمة التاريخية والوطنية وبها الكلية الحربية وسلاح المهندسين والدفاع الجوى والسلاح الطبى وجامعة كررى العسكرية والقاعدة الجوية ومعسكرات فتاشة ومنطقة وادي سيدنا العسكرية. ولكن بالوصول الى بوابات سلاح المهندسين وجسر أم درمان (الفتيحاب) الذي عُرفت المعركة باسمه تكسّرت عزيمة مسلحي العدل والمساواة وتحوّل نصرهم الى هزيمة، وجاءت المعارك والمواجهة بين جيش الحركة والجيش بمختلف وحداته. ومن عاشوا أحداث تلك المعركة واستمعوا لقعقعة سلاحها من المواطنين تناقلوا المعلومات سماعاً، إلا أن من خاضوا غمارها وقادتها ميدانياً أتوا بعد عامين من ذكرى الأحداث يجترون شريط أحداثها في احتفال نظمته منطقة أم درمان العسكرية وسلاح المهندسين. في الثامنة صباحاً رفع سلاح المهندسين التمام لقائده لبدء فعاليات احتفاله بذكرى المعركة التى كانت على أبواب معسكره بالقرب من جسر الفتيحاب، وهو يعلن باسم القوات المسلحة أنهم استوعبوا دروس المعركة جيداً، وعملوا على سد الثغرات، وتغيير التكتيكات العسكرية مع ما يتناسب مع الأساليب والمخاطر الجديدة. وقائد سلاح المهندسين ومنطقة أم درمان العسكرية اللواء الركن مهندس حسن صالح عمر حاول وهو يقدم تحليلاً عسكرياً عن ما دار في المعركة أن ينقل وقائع المعركة بتفاصيلها الميدانية والتكتيكية، فالرجل يخبئ تحت طاقيته العسكرية خبرة استخباراتية تراكمت مع السنين. فهو الى جانب ذلك مهندس مدني وعسكري وحاول الرجل أن يقدم جرد الحساب عن أحداث أم درمان التي لملمت عامها الثاني، وقدم سرداً ضافياً عن موقع الخرطوم الجغرافي في الوسط الذي وصفه بأنه يعطيها عنصر حماية. ويقر حسن صالح بأن تحركات حركة العدل كانت مكشوفة لديهم، ورغم ضعف معلومات التنصُّت من قبل الحكومة وتغيير الحركة لساعة الصفر لبدأ الهجوم واستناد الحركة في (90%) من خطتها على الطابور الخامس لكن الحركة نجحت جيداً فى إخفاء الهدف من الهجوم حتى على بعد (72) ساعة وهو ما تسبب فى تشتيت القوات بالنسبة للجيش بين سد مروي ومدينة الأبيض رغم إرسال قوات الإمداد. وفوق هذا إقرار الرجل بنجاح حركة العدل والمساواة فى التسلسل لأكثر من (1600) كلم لداخل الخرطوم ب(2000) عربة مثل مغامرة عسكرية جريئة من الحركة بيد أن الجانب المظلم فى الأمر هو الخسارة الفادحة فى العتاد والأرواح التى مُنيت بها حركة العدل، بعد مقتل واعتقال أعداد كبيرة من قياداتها، وهو ما جعل الحركة وبحسب مراقبين عسكريين تفقد ما بنته خلال ثلاثة أعوام فى أقل من ثلاث ساعات، بل وما تزال آثار معركة أم درمان تقف سداً أمام استعادة الحركة لقوتها العسكرية وتجنيد مقاتلين جدد. وفى ذات الوقت يرى مراقبون أن القوات الأمنية الحكومية وقعت فى جملة من الأخطاء رغم انتصارها العسكري. ويقول خبراء عسكريون إن معركة أم درمان خلطت بعض المفاهيم العسكرية وأفرزت الكثير من التساؤلات والتكتيكات الجديدة، فقد كانت قضية عسكرية كبيرة وقعت فيها أخطاء عسكرية فادحة يجب تصحيحها من قبل القوات المسلحة. غير أن اللواء حسن صالح يتفق مع الحديث السابق ويضيف أن الأمر بدا أشبه بلعبة شطرنج بين لاعب يجيد فنون اللعبة وآخر غير (حريف)، فلا يمكنك أبداً أن تحلل ماذا يريد، فحركة العدل والمساواة التى تحركت بما يقرب من الألفي جندي ضربت بكل العلوم والخبرات العسكرية عرض الحائط وهى تقدم على هذه الخطوة، دون أن تؤمن طريقاً للعودة، ويضيف: «الأمر أشبه بالانتحار، لا يمكن أن تترك ظهرك مكشوفاً، لا يمكن لك أن تخسر جنودك من أجل فرقعة إعلامية». بيد أن صالح يعود ويقول إن عملية أم درمان كشفت عن ثغرة كبيرة مفادها عدم وجود خطط لتأمين العاصمة فى المواقف المماثلة، وأن ما حدث خلال تلك العملية من جانب القوات المسلحة والأجهزة الأمنية كان ارتجالاً وتعاملاً مباشراً مع الموقف ومعطيات الواقع على الأرض دون أي تخطيط مسبق، ويكشف عن أنهم استفادوا من دروس الجبهة الوطنية فى العام 1976م (ما عرف بهجوم المرتزقة)، لذلك وجهوا قبل نصف ساعة من معركة الجسر بالاستيلاء على كل المباني العالية المطلة على المنطقة العسكرية، للاستفادة منها وحرمان العدو من مواقعها الاستراتيجية التى تكشف المنطقة، إضافة لإخلاء الكباري من المدنيين حتى لا يتسبب ذلك فى ارتفاع الخسائر. ويجمل اللواء حسن صالح الأخطاء التى وقعت فى تلك العملية إضافة لما سبق، فى الاعتماد الأساسي فى المعلومات على التنصُّت على اتصالات العدو، ويستطرد صالح أن ثمة خطورة فى هذا الأمر كانت تتعلق باكتشاف حركة العدل لهذا الأمر واستخدامه بشكل مضاد عبر خطة تضليل منظمة، الأمر الثاني تعدد قنوات الاتصال والمعلومات فقد تلقوا أكثر من (18 ألف بلاغ). ويصف صالح خطورة الأمر بقوله: «كثرة المعلومات مثل شحها تماماً فهي (توحل) القرار»، الأمر الثالث والأخير التدخل المباشر للقيادة فى العمل الميداني وهو ما يأتي بنتائج عكسية. ويختم صالح تحليله بالقول إن الجيش وقع فى أخطاء تتعلق بالعمل الإداري والإمداد ولكن لم يظهر ذلك لضعف خطط العدو. عامان على معركة أم درمان خضعت خلالها العملية التى استمرت لساعات قليلة للكثير من الدراسة والتحليل عبر الجهزة الأمنية، التى يبدو أنها استوعبت الدرس جيداً منذ قرارها بإقامة خندق طويل يحمي ظهر أم درمان المكشوف لمسافة تتجاوز ال(180) كلم، تكاد تطل بكاملها على مناطق توصف بأنها بؤر للتوتر. وبحلول الذكرى الثانية لمعركة أم درمان أو عملية (الذراع الطويلة) الاسم الذي أطلقته حركة العدل ثمة الكثير من المتغيرات على الصعيد السياسي والعسكري. وبحسابات المعارك العسكرية والسياسية ربحت الحكومة وحركة العدل ولكن خسر الطرفان أيضاً، وهو ما أكده اللواء حسن صالح حينما قال: نحن من ناحية سياسية خسرنا وحركة العدل والمساواة خسرت من ناحية عسكرية وربحت من ناحية سياسية انعكست على وضع الحركة وأصبحت بعد المعركة الحركة الأولى من بين الحركات المسلحة في الإقليم. وبحديث الرجل لا يبدو أن في الأمر غرابة أن تظهر علامات النشوة والاحتفال في أوساط القوات أو السياسيين في الحركة والحكومة فربح من ربح وخسر من خسر ولا تزال الحكومة وحركة العدل والمساواة يمضيان في ميادين أخرى وينكفئان غرباً تبادلاً في المعارك وقعقعةً ودوي سلاح.