لازلت أتذكر تلك اللحظات، التي ظلت محفورة في الذاكرة لأكثر من أربعين عاماً، أتذكر بداياتها، وكأنها حدثت ليلة البارحة، في ذلك الزمن البنفسجي كنا في بداية المرحلة الثانوية، ولم نتحرر بعد من القميص الأبيض، والشورت الكاكي، والصندل البني، وقتها عقولنا لم تستوعب ألاعيب السياسة ودوربها المتعرجة، وعندما أعلن راديو أم درمان عن إذاعة البيان الأول وكان قد سبق هذا التنويه «مارشات عسكرية» تدخل في النفس الحماس، وتروي ظمأ الحالمين بالتغيير والانعتاق والثورة، فرحتنا كانت مزدوجة، أولاً لأننا أبناء «عساكر» وكما يقولون تربية (إشلاقات) لأن الآباء، أنزل الله على قبورهم شآبيب الرحمة والمغفرة قد سلكوا طريق الجندية وقدموا لهذا الوطن أغلى ما يملكون، وحلقت أرواحهم الطاهرة إلى عنان السماء بأجنحة من نور. لقد ارتبط جيل ذلك الوقت بثورة مايو، وذلك بما قدمته في عمل وإنجاز حقيقي، وإنها تستحق الاحترام والمساندة، ونحن في مرحلة الشباب، حيث الفتوة والانطلاق والبحث عن الذات، وجدنا أنفسنا في الحرس الوطني، الذي أشرف عليه الشهيد العميد الركن عثمان أوتشي، ومساعده الأيمن المقدم عيشة حسن. وذهبنا إلى (الدِروة) بكسر الدال وتسكين الراء، وبين أيدينا كانت البندقية الكلاشنكوف تبدو سهلة الحمل، خفيفة الظل، وفي الاحتفال بعيد ثورة مايو الأول، ظهرت طلائع الحرس الوطني، شباب غض، وجباه شامخة، وأقدام ثابتة، شعرنا بالغبطة والامتنان وجماهير الشعب السوداني تصفق لقدومنا أمام المنصة، وبشارع الجامعة في حماس منقطع النظير، وهتافات داوية وعالية، ورغم الإرهاق والتعب الذي أصابنا خلال فترة (البروفات) إلا أن ملامحنا ووجوهنا كانت حية ونابضة، ويجتاحها فيض من السرور والرضى. وبدأت مايو مشوارها الطويل الذي استمر لأكثر من ستة عشر عاماً، حيث قابلت خلال هذه الفترة العديد من العراقيل والمطبات والعقبات، واجتازت الكثير من الأشواك والأسوار، وكان أروع استفتاء لشعبية مايو هو لقاء 9 يونيو الذي أقيم بميدان الأسرة بالخرطوم، وأعلن فيه العقيد أركان حرب وقتها جعفر محمد نميري منح الجنوب الحكم الذاتي، وتواتر عطاء مايو، اتفاقية السلام في عام 1972م حيث لعب الامبراطور هيلاسلاسي دوراً مهماً في نجاحها وكذلك عدد من الدول الاوروبية التي كانت تتعاطف مع حركة (الأنانيا) وتعني كلمة (أنانيا) الثعبان أو الكوبرا. شارك في إنجاز هذا الحلم التاريخي نخبة في ابناء الوطن كان في مقدمتهم اللواء ركن الباقر أحمد، والدكتور منصور خالد وغيرهم، وتمتع اللواء جوزيف لاقو وقتها بحكم الجنوب التي رأت الاتفاقية أن يكون إقليماً واحداً، قبل أن ينشطر الى ثلاثة أقاليم، الأمر الذي أفسح المجال وأدى إلى قيام حرب الجنوب الثانية عام 1983م التي استمرت لمدة عقدين من الزمان، حتى توقفت نيرانها باتفاقية نيفاشا بكينيا عام 2005م. والحق يقال، إن ثورة مايو التي مرت ذكراها رقم (42) الاسبوع الماضي حققت الكثير من الانجازات والاشراقات، ولكن الذين يناصبونها العداء يقولون انها حكومة شمولية، قبضت بيد من حديد على مفاتيح الحكم، وغابت الديمقراطية تماماً. في عهدها قامت العديد من المشاريع الانتاجية الضخمة وفي مقدمتها مصانع السكر العملاقة الآن، وكذلك الطرق التي ربطت أجزاء البلاد بعضها ببعض، ولا ننسى ازدهار مشروع الجزيرة الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة الآن، بعد أن تم بيع كافة أصوله الاساسية ودخل مزارع الجزيرة كهف الفقر والعدم، بعد أن كانت أسنانه بيضاء أنهك بعضها التبغ، كانت هذه الاسنان تضئ وجهه الودود لما كان عليه من راحة البال، وحياة سعيدة رغدة. أيضاً الرياضة وجدت حظها من التطور، إلا أن الرئيس القائد نميري أهدر هذا التقدم بما يسمى الرياضة الجماهيرية، التي عادت ووجدت حظها من الخصوصية عبر خطاب الأديب الأريب العميد عمر الحاج موسى، حيث خاطب الاحتفال المهيب الذي أقيم بقاعة الصداقة التي تعتبر إحدى العلامات البارزة في سجل ثورة مايو، خاطبه قائلاً «أحبوك سيدي الرئيس لأنك أعدت لهم الهلال والمريخ».. طبعاً «الحكاية دي» سوف تغضب الأخ ود الشريف صاحب عمود (دبابيس) في صحيفة ألوان الغراء، حيث أشار لي ذات مرة، أنه إلى أن يغادر الفانية لن يقدم الهلال على المريخ، رغم أن منطق العقل والفكر والأشياء يقدم حسن على حسين وليس العكس. في عام 1975م كان السودان مكتفياً ذاتياً من الحبوب والغلال وكان الرائد أبو القاسم محمد إبراهيم وزيراً للزراعة في ذلك الوقت وقاد وفد السودان لحضور اجتماعات المنظمة العربية للزراعة والأغذية F.A.O التي عقدت بروما حيث مقر المنظمة.. ورشح السودان يومها أن يكون سلة غذاء العالميْن العربي والافريقي.. وبحسرة في النفس.. وغصة في الحلق يتساءل المرء لماذا تراجع السودان كثيراً في المجال الزراعي وهو الذي يعتبر مع دولة استراليا وكندا من أكثر البلدان في العالم التي تمتاز بخصوبة الارض والمياه المتوفرة.. علماً بأن السودان لديه (200) مليون فدان صالحة للزراعة.. المستثمر منها فقط 18% بالاضافة أنه يملك اطول انهار العالم عذوبة وحلاوة؟!. في عام 1977 أرادت مايو أن تفتح أبوابها على الآخرين لكي يساهموا في حكم البلاد.. واستطاع نميري بحكمته أن يستفيد من كافة التكنوقراط من أبناء الوطن دون النظر إلى انتماءاتهم السياسية أو الحزبية.. ولازلت اتذكر الدكتور حسن عبد الله الترابي.. والمصالحة الوطنية وقتها في بدايتها.. أتذكر أنه سافر مع قادة ثورة مايو لحضور مراسيم ذكراها بمدينة الدمازين حاضرة النيل الازرق.. وكان من «تجليات» نميري أنه يختار في كل عام مدينة لتقام فيها هذه الاحتفالات، وذلك بهدف تنميتها وتقوية بنيتها الاساسية.. كان العميد بدوي المبشر الطيب عطر الله ثراه.. ونائبه العقيد حسين مكي يقودان اللواء الرابع عشر مشاة.. وتمت الاستعانة بأفراد الحامية للمساهمة في تشييد الدمازين، وكان وقتها البروف علي محمد شمو وزير الشباب والرياضة، ولازلت اتذكر أن البروف نزل معنا حاملاً المعول مساهماً في تشييد الاستاد.. وبمناسبة ذكر «البروف» شمو فقد سمعته في برنامج ناجح كان يقدمه الأخ الأستاذ عبد العظيم عوض نائب مدير الاذاعة قبل سنوات، البرنامج «شاهد على العصر»، حيث تحدث في تلك الليلة الأستاذ شمو ووصف الرئيس الراحل المقيم نميري بصفات تدل على الوفاء والوطنية وعميق الود في حق الرئيس نميري، ومن ضمن ما أشار اليه البروف هو ذكاء نميري وأنه صاحب قرار وإلا لما استمر في سدة الحكم (16 سنة) متتالية. نعود للدكتور حسن الترابي «فرج الله كربته» عندما داعبه الرائد زين العابدين محمد أحمد مساءً أثناء الاحتفال، حيث كانت الفقرة رقصة تراثية تؤديها الصبايا بإبداع وسحر.. وعندها التفت زين العابدين مخاطباً الترابي الذي كان وقتها في قمة حيويته وشبابه مرتدياً بدلة سوداء.. وربطة عنق لامعة حمراء.. وقميصاً به خطوط زرق زاهية.. خاطبه مداعباً «وين.. وين تلقوا زي ده» وضج الجميع بالضحك. اهتمت مايو بالقوات المسلحة وأفردت لها في أضابيرها اهتماماً خاصاً.. ويكفي أنه ولأول مرة في تاريخ الجيش يتم استيعاب 741 طالباً حربياً.. وهي دفعة ال «700» كما يطلقون عليها.. أو الدفعة «24» كما يسميها أبناؤها، ولم يتبقَ منها الآن إلا فارسان هما الفريق الركن عبد الرحمن محمد زين والفريق الركن علي الطاهر. بدأت مايو في استغلال قناة جونقلي للاستفادة من المياه التي تتبخر لزراعة الارز.. إلا أن الحرب أوقفت هذا المشروع. انداح الإرسال التلفزيوني وأقيمت العديد من المنشآت الضخمة مجلس الشعب.. وقصر الشباب.. كما وطدت ثورة مايو العلاقات الخارجية بصورة متوازنة.. كما أنها في الداخل أشاعت بين الجميع روح الإلفة والترابط.. بعيداً عن العنصرية والجهوية والقبلية.. التي نعاني الآن من إفرازاتها السالبة، كما أن الوحدة الوطنية خط أحمر لا يمكن تجاوزه.. تغنى كبار الفنانين بمايو وإنجازاتها.. كما لم ينسَ أحد الشعراء أن يشيد بالنميري «أب عاج اخوي دراج المحن» كما صدح ذلك الفنان العملاق بصوته الجهوري قائلاً: في حكاياتنا مايو.. في شعاراتنا مايو. والذين احتفلوا بذكراها الاسبوع الماضي.. إنما يحتفلون بهذا النصر.. الذي ضم بين دفتيه العديد من الأعمال الباهرة، والإنجازات الرائعة.. رغم وجود أوجه القصور والإخفاقات في عدد من الميادين. { في كلمات.. { يداعب منذ الصباح الباكر بساعده المعروف.. أغصان النبات الرقيقة.. يصلح اعوجاجها .. يسقي تربتها.. وبعدها يبدو المنظر بهياً وساحراً.. تتفتح الأكمام.. تطل الالوان.. وكأن المشهد يغني للطبيعة والمطر.. هذا الرجل «الجنايني» رغم تواضح درجته الوظيفية، إلا أنه في نظري مدير عام في الدرجة الأولى. { أروع ما في حياة الجندية أنها تشحن شرايين الإنسان بأرقى القيم.. وأنضر المثل.. وأعظم التقاليد.. ولكن أنبل ما فيها هو احترام أقدمية التخرج، أي «السلسلة العسكرية» كما هو معروف بين أبناء الكاكي. { إذا دعتك قدرتك إلى ظلم الناس... فتذكر قدرة الله عليك.