صور ومشاهد تضع بصمتها الآسرة على وجدان الناس في الخرطوم، خاصة في (مواقف المواصلات)، إذ تجده دون ملل أو كلل يجذب (الركاب) إلى المركبات العامة، حسب وجهتها (الجريف، بحري، أم درمان، سوبا، الجبل)الخ. ويطلق العنان لحنجرته التي لا تفتر من النداء بعبارات مرتّبة، لا يهمه تعليق من حوله. إنه (الكمسنجي) تلك المهنة التي يقف من خلفها أفراد يعرفون كيف يحرِّكون (كمنجات) الدخول إلى (غُرف) الحافلات.. شخصية شعبية لا يصيبها السأم، بل تجده يداعب هذا، ويضحك مع ذاك، وهو منهمك في مهنته تحت المطر والرياح وعز الشتاء وهجير الشمس منذ الصباح وحتى النصف الأول من الليل، تجده يقف على ساقيه وكأن التعب والإرهاق لا يعرف الطريق إليه. (الأهرام اليوم) دخلت إلى مواقف الخرطوم (جاكسون، والإستاد، السكة حديد)، وسط معمعة العمل اقتنصت من أفواه هؤلاء النفر إفاداتهم عن مهنتهم فماذا قالوا؟: (عم إسماعيل) رجل بسيط.. ترى في وجهه تقاطعات الزمن وتجاعيد الظروف التي عاشها، وجدناه مبتسماً كعادته ولمّا وضعنا سؤالنا له، أجاب قائلاً: اتعودت على كده، وأكل العيش أصبح صعب. وعن سؤالنا له: ألم تجد مهنة أخرى تريحك من هذا الشقاء؟، ضحك وألمح بحركة خفيفة بيديه: (كل واحد بياكل قسمتو)، لكن مع ذلك لم يقف عندي الطموح من أجل وظيفة لكن إلى متى انتظر ولا أريد أن أكشف لك من أنا، وعلى أي حال رغم الأجر البسيط والمجهود الذي أقوم به، الحمد لله الحال مستور. فتركنا ومضى إلى حال سبيله لمواصلة رحلة عمله الشاق. والتقينا (عيسى) في ذات (الموقف)، فأشار إلى أنه تعوّد صخب الحافلات وزحمة الناس وصار يمارس هذه المهنة وقال: (ما بخجل) منها فإنها تعيشني وتعول أسرتي. مواصلاً: إذا لم أكن كمسنجياً لصرت (ربّاطاً)، فالحياة في الخرطوم صارت صعبة جداً والحصول على (حق الملاح) أحد الأحلام السبعة!. وقال كنت ناجحاً في دراستي ولكن ظروف الأسرة وقت ذاك أجبرتني أن أقف مع والدي فتركت المدرسة والوالد توفي وترك لي إخوة وصرت العائل لهم، وبعده بسنين لحقت به الوالدة، فصرت أباهم وأمهم، فعملي في هذه المهنة والحمد لله لم يجعلني أمد يدي في الشارع (كرامة يا محسنين). وأثناء إدارة هذا الحوار كان الجو قائظاً بالحرارة ويتصبب العرق منا ورغم ذلك تركنا العم عيسى ومضى هو الآخر ينادي لملء حافلة ركاب أخرى، إنه أكل عيشه. اقتطعنا منه دقائق ولكن أثناء ذلك التقينا ب (زاهر). وما شدّني إلى استطلاعه نغمة المناداة التي يخلطها بالإنجليزي (المكسّر) والعربي، وبطريقته المختلفة، وحين بدأنا حوارنا معه كانت الحافلة قد امتلأت فقال مداعباً أحد الركاب وكان يلبس جلباباً وعمة، (ما تدفع ليهو لأنك صاحب الحظ، لذا لابد أن تتمتع برحلة طيبة ولأنك الوحيد الذي يلبس عمة، فأنت الوحيد الذي لا يدفع)، وضحك كل من في الحافلة وتحركت الحافلة وتركت لنا العم عيسى وسألناه فقال: أعمل بهذه المهنة بعد وفاة الوالد مباشرة، فالبداية كانت صعبة وسرعان ما صرت (سنيراً) فيها وأصبحت مألوفاً في الموقف، ولكن ظروف الحياة والأقدار هي التي تجبرنا لممارسة مهن لم نتوقع في يوم أننا سنقوم بها، مؤكداً: أنني (مرتاح) وأؤدي واجبي تجاه أسرتي ونفسي، رغم أنها مهنة شاقة إلا أنني قد تمكنت من أدائها. مشيراً إلى أن العمر صار على حافة الهاوية، لكنني مستقر في هذه المهنة، كما أني لا أحتد في مشادة مع أحد أياً كان غير مناداتي هذه و(مبسوط جداً) ولم يحدث أن اشتكيت من التعب أو الإرهاق، مستطرداً: فإذا (سكت) عن النداء يأتي إليك من يسأل: (العربية دي ماشه وين)؟ تركنا العم عيسى.. والجو صار أكثر حرارة، ومازال هؤلاء (الكمسنجية) يرددون أهازيجهم بألحان مختلفة. وتظل مهن بعينها رغم معاناة أصحابها وشقائهم إلا أنها أراحتهم في حياتهم وما تبقى من العمر، يسكبون فيها عصارة العمر تعباً وأرقاً، ويظل (الكمسنجي) أحد هذه المهن الخدمية التي يستقبلها الجمهور عن رضىً وهو يقف (طول) النهار وزلفاً من الليل ينادي بحنجرة لا تجف ثانية عن ترديد (هنا بأم درمان، وهنا ببحري» وعلى كل منحى (بالمواقف) نجدهم لا يملون ولا تصاب حناجرهم بالرهق.