السفير السعودي لدى السودان يعلن خطة المملكة لإعادة إعمار ستة مستشفيات في السودان    مليشيا الدعم السريع تكرر هجومها صباح اليوم على مدينة النهود    منتخب الشباب يختتم تحضيراته وبعثته تغادر فجرا الى عسلاية    اشراقة بطلاً لكاس السوبر بالقضارف    المريخ يواصل تحضيراته للقاء انتر نواكشوط    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    شاهد بالصور والفيديو.. على أنغام الفنانة توتة عذاب.. عروس الوسط الفني المطربة آسيا بنة تخطف الأضواء في "جرتق" زواجها    المجد لثورة ديسمبر الخالدة وللساتك    بالصورة.. ممثلة سودانية حسناء تدعم "البرهان" وثير غضب "القحاتة": (المجد للبندقية تاني لا لساتك لا تتريس لا كلام فاضي)    المجد للثورة لا للبندقية: حين يفضح البرهان نفسه ويتعرّى المشروع الدموي    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    الناطق الرسمي للقوات المسلحة : الإمارات تحاول الآن ذر الرماد في العيون وتختلق التُّهم الباطلة    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    قرار بتعيين وزراء في السودان    د.ابراهيم الصديق على يكتب: *القبض على قوش بالامارات: حيلة قصيرة…    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    باريس سان جيرمان يُسقط آرسنال بهدف في لندن    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    صلاح.. أعظم هداف أجنبي في تاريخ الدوري الإنجليزي    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    المريخ يخلد ذكري الراحل الاسطورة حامد بربمة    ألا تبا، لوجهي الغريب؟!    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    بلاش معجون ولا ثلج.. تعملي إيه لو جلدك اتعرض لحروق الزيت فى المطبخ    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



منمنمات : وشائج في نسيج الوحدة الجاذبة (2)
نشر في الأهرام اليوم يوم 31 - 05 - 2010

عابرون هؤلاء الفتية، ولكنهم تركوا وراءهم ذلك النبض الدافئ، تركوا أهازيحهم الممتعة؛ تلك التي دغدغت الذاكرة بكل ذلك التوهج المضيء لسراديب ذلك الحنين إلى الوطن، ها هم جماعة مسرح (كوتو) الأهلي يعبرون القاهرة ونستدفئ معهم بعرض مسرحي متميز يوم الأربعاء الخامس من نوفمبر 1997م، بصالة المركز السوداني للثقافة والإعلام في تقاطع شارع مصطفى النحاس مع شارع (مكرم عبيد) بمدينة (نصر). جماعة مسرح (كوتو) جاءوا عابرين إلى السودان بعد أن قدموا مسرحية (ورنش) على مسرح (الحمراء) ب (قرطاج) مشاركين في ذلك المهرجان الموسوم ب (أيام قرطاج المسرحية)، وكانت هذه الأيام المسرحية في دورتها التاسعة. قدمت (كوتو) عرضها (ورنش) في أيام 28 –29- أكتوبر 1997م، العرض المسرحي (ورنش) تأليف الأستاذ (إستيفن أوفير أوشلا) أحد أعمدة مشروع (كوتو) وهومخرج مسرحي ومصمم رقصات وعازف طبول متميز، وهو يقود الآن فرقة (أورباب)، والعرض من إخراج الأستاذ (السماني لوال)، ومن تمثيل (جوزيف صموئيل، جيمس لويس، دينق إستيفن، فرنسيس تومبي، جورجيت نويل).
يقول السماني لوال:- (كوتو – المكان، بقعة مقدسة بمنطقة كبويتا بشرق الاستوائية، هناك هبط الإنسان الأول، أبو البشرية - كوتو - جد قبيلة التبوسا، وبارك تلك الأرض وأورثها أبناءه من بعده، هناك يتم إلى اليوم تعميد كل أجيال التبوسا، هناك يتوحدون روحياً وذهنياً على أقدام الأب الأكبر -كوتو - هناك يأخذون من – كوتو- الأب الأكبر حكمة القبيلة التي يحتاجونها في حياتهم لبناء مستقبلهم، يتم ذلك في طقس احتفالي مفعم بالحيوية والتمثيل، ويستمر ذلك أياماً وأياماً.. يخرج المعمدون بعدها إلى الحياة متوقدي الأذهان والأرواح، وهم أقدر على صنع حياتهم بأنفسهم، نحن نحاول فعل الشيء نفسه مسرحياً مع هؤلاء الصبية الذين هجروا ديارهم بفعل الحرب، لا شك أنهم يواجهون ظروفاً عصيبة، الأمر الذي يتطلب قدراً كبيراً من الاستعداد والتأهيل لمواجهة هذه الظروف وتخطيها وصنع حياة جديدة.. هذا هو – كوتو- الاسم والدلالة والممارسة والحلم).
جماعة (كوتو) جماعة استثنائية ذات أهداف خاصة في تكوينها وملامح متفردة في أعمالها المسرحية، وتهتم الجماعة - بجانب المسرح - بفنون الرقص والغناء، وأصدرت هذه الجماعة إلبوماً غنائياً متفرد اللونية، إذ يعتمد هذا الإلبوم على أغنيات متنوعة من مختلف قبائل الجنوب وجبال النوبة، وهو غناء يعتمد على الأصوات البشرية فقط دون الاستعانة بأي آلات موسيقية، شعبية كانت أم حديثة. جماعة مسرح كوتو الأهلي شهدت الساحات الشعبية وأماكن سكن النازحين عروضها المتوسلة بفنون الرقص والغناء والعرض المسرحي، وأصبح لتلك العروض جمهور عريض من المتفرجين على مختلف تنويعاتهم، ابتداءً من المواطن العادي البسيط إلى قطاعات عريضة من المثقفين الشماليين والجنوبيين وقطاعات النازحين حول العاصمة المثلثة، وأحياناً خارجها، كما استهدفت هذه العروض الفنية الهيئات الدبلوماسية ومنظمات المجتمع المدني، ولهذه الجماعة تجربة ثرة في مجال تجريب اللغات المحلية في فن المسرح فكانت هنالك عروض مسرحية بلغة الدينكا، ولغة النوير، والشلك، وعروض ب (عربي جوبا)، وهذا ملمح متفرد، وحرص الأساتذة السماني لوال وديرك ألفريد وإستيفن أوفير أوشلا على تحويل نصوص مسرحية معروفة مكتوبة بعامية وسط السودان إلى عامية (عربي جوبا) مثل مسرحية (السيرك) للكاتب المسرحي مصطفى أحمد الخليفة، ومحاولة السماني في مسرحية الكاتب المسرحي محمد محيي الدين (مطر الليل) وهي تجربة ذات مغزى خاص، كما أن أهم تجليات هذه الجماعة هو ذلك الاحترام المتبادل بين المجموعات الإثنية التي تختلف عن بعضها البعض في اللغة والدين والتقاليد، وذلك من خلال التركيز على الصيغ الفنية باعتبارها صيغاً تقبل هذا التآلف والانسجام بين المجموعات المختلفة، وهذا هو جوهر هذا الفريق الفني الذي اتخذ من اسم إله قبيلة (التبوسا) اسماً له.
السماني لوال، وقد تشبع ذهنه بعلوم ونظريات المسرح، ومارس تجارب مختلفة من العروض المتنقلة مع جماعة السديم المسرحية؛ بدأ يفكر في كيفية استنطاق مفردات البيئة المحلية الثقافية من خلال فن المسرح، وبدأ لسانه يلهج بمقولة (مسرح المراح):- المراح مؤسسة اجتماعية مبدعة جداً في مجتمع الدينكا، إنه عالم بكامله، يعج بالحيوية والإبداع، هناك يتعلم النشء لغة القوم، سلوك القوم، أدب القوم، حياة القوم، باختصار، هناك انفتاح على الحياة الواسعة بكل تفاصيلها، (مسرح المراح)، الحلم كان ولا يزال مسألة منهجية للفعل المسرحي السوداني، كيف الخروج به من ورطته الاستلابية؟ كيف يتأتى ربطه بواقعنا الثقافي وتكويننا النفسي والذهني والاجتماعي؟ كنا نعتقد أن التحول الاجتماعي المنشود لا بد أن تتوفر له أدوات معرفية تحفر في التربة الثقافية السودانية الحقيقية؛ لتخرج لنا شكلاً فنياً مسرحياً ينتمي إلى ترابنا وإنساننا في حضوره التاريخي والأسطوري والمستقبلي معاً، كنا نعتقد أن الإنسان السوداني موجود في تراثه المتعدد بالقدر الذي يوجد التراث فيه، أو كما يقول (عبد الكريم برشيد)، لذلك كنت والأخ الصديق ديرك أويا ألفرد نتفاكر كثيراً منذ عشر سنوات خلت، حول كيفية إعادة صياغة المسرح السوداني وتشييده بمواد مأخوذة من الواقع السوداني المتنوع، في أحلامه وأساطيره وحكاياته الشعبية وتاريخه.. الخ، ولما كنا الاثنين من جنوب السودان، كنا أكثر اهتماماً وحساسية تجاه الجانب الجنوبي من التراث الثقافي السوداني، من هنا جاءت فكرة مسرح المراح.
كانت هذه التساؤلات تشكل مدخلاً نظرياً نحو تحديد هوية وشكل ومعمار ومضمون ما أسميناه بالمسرح الجنوبي، لذلك رأينا أن يكون (المراح) حجر زاويتنا الأساسي في بناء مسرحنا الحلم، كان من المفترض أن نشرع في تنفيذ هذه الفكرة فور تخرجنا من المعهد العالي للموسيقى والمسرح 1985م، غير أن اندلاع الحرب في الجنوب أعاق ذلك المشروع، تراجع المشروع وجمد إلى حين، لكن مع تزايد حدة القتال في الجنوب وتدفق الآلاف من النازحين الجنوبيين نحو الشمال بما في ذلك الخرطوم نفسها؛ اشتعلت الفكرة مرة أخرى في رؤوسنا، قلنا لم لا نبدأ من هنا؟ والآن وبذلك الممثل النازح القادم لتوه من الجنوب، لا شك أنه قدم إلى هنا حاملاً في أحشائه تراثه وذهنيته وحيويته المعهودة، فنحن نعرف أن الإنسان في الجنوب منفعل بالحياة وعنيد لا يستسلم بسهولة أبداً، وعلى الفور جمعنا عدداً من الصبية الجنوبيين النازحين، ووضعنا برنامجنا متكاملاً.. حددنا ست لغات جنوبية كبداية، إضافة إلى العربية (عربي جوبا) على أن تتبعها لغات أخرى مستقبلاً، نفذنا برنامجاً تدريبياً ساعدنا فيه العديد من الإخوة الفنانين والأصدقاء، على رأسهم الفنان محمد عبد الرحيم قرني، والسر السيد، وأحمد طه أمفريب، ومصطفى أحمد الخليفة، والسر حسن، وغيرهم، واتحاد الممثلين السودانيين، وبعد ثلاثة أشهر كنا نجوب بأعمالنا المسرحية القصيرة الكليات الجامعية في أسابيعها الثقافية ومعسكرات النازحين وأحياء العاصمة الفقيرة، المهم أننا بدأنا. وإستراتيجيتنا تستند على المنطلقات الآتية:
1 مسرح الجنوب «المراح + النازحين» بماذا نبنيه؟ بمواد مأخوذة من الحلم والأسطورة والحكاية الشعبية والتاريخ والأدب الشفاهي؛ أم ماذا؟
2 ما هي أدوات هذا المسرح؟
3 كيف نصنع نصاً مسرحياً جنوبياً؟
4 ما هي آفاق هذا النص من حيث الكلام والفعل والموقف والفضاء الجغرافي؟
5 الشكل (كيف هو؟ ما هي مقوماته؟).
ها هم، خمسة من شباب جماعة مسرح (كوتو) الأهلي، كثمرات يانعة من ثمار تلك الورش الفنية المستمرة الفعل، تحمل عبق السودان إلى تونس، وها هو الكاتب المسرحي إستيفن أوفير أوشلا يدعونا للدخول في علبة (ورنيش) لأن من الضروري أن (يورنش أي زول نفسو)، ويستهل المخرج السماني لوال هذا العرض الدافئ جداً بأهزوجة ورقصة ذات تلقائية عالية من قبل أربعة من (الورنشجية) الذين يؤكدون أن أهم ما في الإنسان قدميه والأحذية التي تحمي وتساعد الأقدام على المشي والحركة، أليس لذلك دلالة خاصة؟ ومن خلال عوالم هؤلاء (الورنشجية) يتداعى ذلك العرض المسرحي ويتلامس مع قضايا المجتمع، المواصلات، حالة فقر الموظفين، الانتخابات، عوالم (الشماسة) وأحلامهم المسقطة على الأفلام الهندية وتصورهم لبطل من بينهم، وحين تدخل الفتاة - تلعب هذا الدور الممثلة جورجيت نويل – تضيف إلى أحداث ذلك العرض تداعياً من نوع خاص، يتراوح بين الأنثى والأم وعوالم الطفولة وتفكك الأسرة من خلال مشاهد عميقة المعنى والدلالة، فها هي الأم تدلل – من دلالة وليس دلال – تدلل أبناءها في سوق (الله أكبر)، ها هي ضجة ذات هذيان متسائل عن (أين يوجد الغلط؟) الذي استشرى وعم كل الفضاء المسرحي بما في ذلك جمهور العرض، بل إن (الغلط) يصبح شخصية مسرحية تحاصر كل شيء إلى درجة السقوط المريع، وتطل صفة (كنقولوجي) وهي صفة أشبعتها الأم من خلال حوار هو ذروة درامية كثيفة:- (كان في زول، قال لناس أنا بفكر ليكم، وبعدين مشى للجماعة قلعوا رأسو، ده ما كنقولوجي؟ كان في زول، قال لناس إنتو نومو وأنا بعاين ليكم، وبعدين الجماعة قلعو عينو، ده ما كنقولوجي؟).
ها هو التاريخ يقف عارياً، خجلاً، في نسيج أحداث هذا العرض إلى درجة أن كل الشخصيات تجمع على أن هذا التاريخ يجب أن يبعد، يجب أن ينسى، يجب أن نخلعه عن ذاكرتنا كما نخلع الأزياء المهترئة، ولكن يبقى ذلك التساؤل العميق بمثابة ذروة تراجيدية عبثية:
(نوديك وين يا تاريخ؟).
وتتداعى أحداث ذلك العرض بمتعة منسابة، أفلح المخرج السماني لوال في تكوين حركاتها وسكناتها وأهازيجها، وضبطه - ذلك المتميز - للحركة في المسرح، مع مدلولها الفكري. ببساطة شديدة تعامل المخرج مع أدوات هذا العرض نافياً كل تعقيد، منتمياً إلى جمالية بسيطة تعتمد على حركة الممثل وتكوين الأجساد البشرية وهي تتحول من حالة درامية إلى أخرى دون أن يلحظ المشاهد هذه الحيل الفنية، فهذا العرض نموذج حقيقي لقيادة الممثل ولإخفاء صنعة المخرج بتلك التلقائية التي ميزت أداء الممثلين جميعاً. لغة الحوار في هذا العرض هي خليط من عامية وسط السودان، وعربي جوبا، وأحياناً تظهر كلمات من عوالم الشماسة، مثل (تفتيحة، شتت)، ولكن بعد كل هذا الخليط يبدو حوار المسرحية متماسكاً في المبنى والمعنى، بل يلجأ أحياناً إلى تراكيب بلاغية عميقة المعنى مثل (ورنش ضميرك)، وهكذا يكون المخرج السماني لوال بهذا العرض (ورنش) قفز فوق تجربته الإخراجية المتميزة (مأساة يرول) ليبحث عن نسيج لعرض مسرحي سوداني الملامح، وهو بحث دؤوب كانت تدعو إليه جماعة السديم المسرحية. يقول السماني لوال عن هذه التجربة:- (تجربة جماعة السديم المسرحية أفرزت كوادر مسرحية تعتبر من أميز كوادر الحركة المسرحية السودانية، لأن السديم كانت تجربة عميقة في فعلها المسرحي وفكرها وانتمائها لهذا البلد. إنها تجربة همت بإعادة صياغة بناء المسرح السوداني بأدواته الثقافية مستفيدة من تجارب الغير، كانت السديم تبحث بتجربتها عن المنهج من خلال الممارسة والرؤية عوضاً عن الخطل والضبابية، كانت تجربة ممتدة تؤسس شمولية الفعل الإبداعي «أدب مسرح نقد غناء تشكيل» أسست لأسلوب المسرح المتجول، ذلك المسرح الذي يعادي المعمار الأرسطي بثقافته التي تسطحت، كانت تبحث عن شكل مثاقفة أكثر ارتباطاً بالإنسان السوداني في راهنه وامتداداته التاريخية السحيقة، كانت تحاول ربط الإنسان السوداني من خلال تراثه بهموم وإيقاع عصره الراهن، أقول كانت وكانت، لأن السديم الآن مرضت وتكلست مفاصلها وصارت كسيحة وزحفت عليها أمراض العصر الراهن، إني خجل من نفسي ومن هذه الانهزامية. كنت واحداً من عناصرها لكننا هوينا ككل الأشياء الجميلة في بلادي).
في العدد الثامن من الملحق الذي تصدره مجلة (الحياة الثقافية) بعنوان (النشرية) وهو ملحق يتابع ويحلل ويخبر عن عروض أيام قرطاج المسرحية، وصدر هذا العدد في الثلاثين من أكتوبر1997م وعلى صفحته الأولى كتبت الأستاذة سعدية ساسي عن هذا العرض تحت عنوان (ورنش – عبق السودان)، كتبت:- (رغم تهاطل الأمطار في الخارج وبصفة فجائية؛ فإن ذلك لم يحل دون امتلاء فضاء الحمراء بالمتفرجين القادمين لقراءة البعض من دفاتر المسرح السوداني، لم يطل الانتظار حين أطل مؤلف المسرحية لتقديمها، النور يغمر فضاء الركح، المحاط بستار أسود، درجات خشبية تحولت في إحدى اللوحات إلى عرش للسلطان وفي أخرى إلى طاولة، بالإضافة إلى ذلك الديكور البسيط استقر سلم خشبي في آخر الركح، ماسحو الأحذية يلازمون نفس المكان كامل اليوم أو يتنقلون في شوارع المدينة وأزقتها حاملين علب العمل، الوقت شاسع أمامهم، ينظرون، يلاحظون، يختزنون ملاحظاتهم، تتنوع النماذج البشرية أمامهم وتتعدد، الموظفون وفقرهم الدائم، والأثرياء وأموالهم تنخر المجتمع، فالتجاوزات، والفساد، والتفاوت الطبقي، والذل والخنوع اللذان يتشح بهما البعض ممن باعوا كرامة الإنسان بأرخص الأثمان فانحنت قامته المديدة، والتاريخ، من يكتبه؟ المنتصرون؟ بأحرف التحريف أم بحبر الحقائق؟ الأضواء كانت ثابتة كامل العرض، باستثناء حركة ضوئية في الختام، الممثلون أربعة رجال وامرأة، اجتهدوا لتبليغ مميزات الشخصيات التي تلبست بهم، أو تلبسوا بها).
في إحدى معارك تسعينيات الإنقاذ، حين منعت مسرحية (مأساة يرول) من تمثيل السودان في مهرجان بغداد للمسرح العربي، وكان وراء ذلك المنع الأمين العام للهئية القومية للثقافة والفنون، وفي ندوة كانت في مباني جريدة الإنقاذ الوطني؛ تصدى الأستاذ السماني لوال لمفاهيم الرجل ذات التعالي والنبرة الأحادية المصطحبة معها سلطة المنصب والولاء للمشروع السياسي، ونشرت جريدة (الإنقاذ) وقائع الندوة في العاشر من مارس 1992م، قال السماني لوال في هذه الندوة:- (الحضارة عمل جماعي وهو مهمة الدولة لأنها يجب أن تكفل الحق والحرية للتعددية الثقافية وتدعمها، والدول التي عملت على إنتاج الثقافة حضارياً ضمنت لنفسها الهيمنة الحضارية على بقية المجتمعات، ولا يوجد إنتاج بدون ثقافة، ليس هناك خطاب ثقافي داخل المؤسسات الثقافية والأكاديمية المدرسية يكون من شأنه خلق ملامح ثقافية، وإنما هناك تهافت واستعجال في تحديد ملامح الهوية السودانية، المؤسسة الرسمية تفرض مشروع الهوية العربية الإسلامية فرضاً، والمسرح عندنا محارب على مستوى التنفيذيين الحكوميين بشروط مجحفة ومحاولات تهميش واضحة، إن التنفيذيين همشوا مقدرة الناس، واستعملوا حقهم الإداري لإجهاض صوت الجميع، المسرح تمرد، ويجب علينا قبول ذلك، ولذلك نطالب بحرية التعبير، المؤسسة الرسمية تحاول فرض شكل ثقافي محدد وهذا ليس في صالح التعددية).
يقيم الآن الفنان المسرحي المتميز السماني لوال في مدينة (فانكوفر) بكندا وبيننا هواتف حميمة، وأدمنا سجن الذكريات الإسفيري، وتفعيل الأحلام بسودان موحد، ولا زلت أذكر مقولة مهمة للسماني لوال وذلك حين كنا في سطح القطار المتجه من الخرطوم إلى الدامر لقضاء إجازة قصيرة مع الصديق قاسم أبو زيد في (الشعديناب)، كان ذلك في أوائل الثمانينيات من القرن المنصرم، كان لوال لاحظ الجفاف والقرى التي حاصرتها الرمال علي طول الطريق الحديدي، فقذف في وجوهنا بسؤال استنكاري حقيقي (طيب وين فكرة إنو الشمال نما وتطور على حساب الجنوب؟).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.