أتصور أنه قد انتهى «عصر الصحافة» الذي يذهب فيه القارئ الى المكتبة ليشتري الصحيفة ليقرأ لكاتب واحد ثم يلقي بالصحيفة جانبا، فثمة تطورات كبيرة قد حدثت في مفاهيم السادة مستهلكي هذه السلعة، فالقراء هم الذين يفرضون الآن بقوة رؤيتهم ورغباتهم على السادة صنّاع الصحف، كان السودانيون لوقت قريب يذهبون للمكتبات ليقرأوا لكاتب واحد أو كاتبين. وربما لارتفاع أسعار الصحف نصيب في بلورة مثل هذه الرؤية، ففي معظم الأحيان يتطلع الكاتب الى أن يجد في صحيفته المفضلة «حزمة خدمات»، كأن يجد «صحيفة رياضية» داخل صحيفته، وربما تلاحظون أن هذه الخدمة الرياضية قد تطورت كثيراً، فانتقلت من صفحة يتيمة تعنى فقط بفريقي القمة، الى صفحات ملونة تعنى بنجوم هذه المهنة حول العالم، ثم ليجد القارئ أيضاً حظه من التقارير والتحليلات الإخبارية، خاصة وأن بلاد «النيل والشمس والحركات المسلحة» أضحت واحدة من البلاد ذات «الأحداث الساخنة»، وحتى الذين لا يعشقون السياسة، وهم يومئذ قليل، فقد أصبحوا مضطرين لمعرفة حركة الأمواج العاتية التي تتقاذف سفينتهم. هذه الأمواج التي تبدأ بتقلبات الشراكة ولا تنتهي بأخبار الحركات الموقعة وغير الموقعة، فالجماهير في غدوها ورواحها تشعر كما لو أن الأرض تهتز تحت أقدامها، لهذا وذاك فهم يهرعون كل صباح الى المكتبات ليقفوا على اتجاهات الرياح السياسي، ثم وفي ظل عمليات الانفتاح الواسعة على العالم عبر ثورة التقنيات وجيوش الوافدين الى بلادنا، لقد تطورت الجريمة وازدهرت صفحاتها، لدرجة أن بعض الجرائم التي تهز المجتمع بأسره أصبحت تفرض وجودها بقوة، وقد تصل الى درجة «الخطوط الأولى الحمراء». غير أن هنالك شرائح بأكملها في المجتمع أضحت تتعامل مع الأسواق الاقتصادية برؤى علمية، ولهذا وذاك أصبح لا فكاك للصحف من إفراد الصحفات الاقتصادية المتخصصة، التي في معظم الأحيان لا تكتفي بنقل أسعار المحاصيل وبورصات الأموال، ولكنها تذهب أكثر باتجاه تقديم بعض القراءات والتحليلات المالية، كما لابد لهذه الصحف أن تطرز صفحاتها «بفريق كتّاب مميز» يمتلكون من الحصافة والحكمة والمقدرة ما يؤهلهم الى فك طلاسم الأشياء لجمهور القراء، ويرسمون معالم المسيرة ويشكلون رأياً عاماً قوياً حول القضايا المختلف عليها والمتفق والمتنازع حولها، أيضاً هنالك نقلات استيعابية هائلة «لفنيي التشكيل والماكيت والإخراج» بين جمهور القراء، فالصحيفة إن كانت «قبيحة المنظر» فلا ينظر اليها وإن كانت «جيدة الجوهر»، فالشكل أضحى فنا مرغوبا جداً، والتحقيقات التي تهتز لها الأرض، والصفحات الفنية التي تتراقص معها الجماهير والصفحات العالمية و..و... { ثم بعد أن تتقن الصحيفة كل هذه الفنون وتستوعب عبقريات «الشكل والمضمون» ومخاطبة قضايا الجماهير، يبقى أمامها أن تصبح مؤسسة يسعى بذمتها أدناها، بحيث أنها لا تتأثر بغياب أحد طاقمها التحريري، وكنت في بداية صدور هذه الصحيفة أقول للأخ الهندي، إن التحدي الأكبر هو أن تتحول «الأهرام اليوم» في أقرب وقت الى مؤسسة، بحيث يأتي رئيس التحرير ليتصفح بريده الالكتروني ويقرأ الصحف ويقابل الضيوف ويشرب القهوة، ثم في نهاية اليوم يلقي نظرة على الخطوط الكبيرة. وبالفعل قد بلغت «الأهرام» هذه المرحلة في وقت قياسي. لكن أعظم إنجاز حققته هذه الصحيفة قد تجلى وتمظهر في إخراجها المميز جداً، فقد تميزت في فن الإخراج قبل أن تتميز في الفنون والضروب المهنية الأخرى، ولعلها فرصة لكي أسجل إعجابي الشديد بلمسات «المطبخ الفني» الذي يديره الفنان المدهش شاكر محمد نور المدير الفني، والمبدعون الرائعون سعد الدين عبد الواحد وياسر مختار محمد وعمر كمال. وأصدقكم القول أني قد أرهقت «خيول ملاذاتي» لأعبر الى هذه الفقرة الفنية الأخيرة، أن أحيي «المطبخ الفني» لهذه الصحيفة على المجهودات المدهشة التي يضطلع بها.