لا ينتطح عنزان في أن بلادنا الآن تعيش مخاض تنمية مرهقة وعسيرة جداً، وليس أدل على ذلك من ثورة الطرق والجسور والسدود التي تشتعل في أكثر من ولاية، فولاية نهر النيل وحدها الآن بين يدي افتتاح حزمة من مصانع الأسمنت التي قد تصل مخرجاتها ومنتجاتها الكلية إلى سبعة ملايين طن أسمنت في العام، وبفضل الله سبحانه وتعالى، ثم بفضل هذه المصانع، سيدخل السودان إلى عالم الدول المنتجة والمصدرة لهذه السلعة، وعلى الأقل في نهاية هذا العام سيكون لدينا فائض من الأسمنت يصل إلى أربعة ملايين طن، وذلك بعد تغطية الاحتياجات المتزايدة، وربما الصدفة وحدها هي التي جعلت الوزير الدكتور غلام الدين عثمان، الأمين العام للصندوق القومي للإسكان، والوالي الأسبق لولاية نهر النيل، جعلته يبتدر إنشاء تلك المصانع إبان ولايته، ثم هو الآن في موقع بناء وتشييد قومي يحتاج إلى أن يستخدم ما غرسته يداه في فترة سابقة، فكما لو أن الرجل في وضع من يقول «يا سحائب الأسمنت هبي وسيري فأينما تهطلي ستأتيني مخرجاتك». غير أن لأية نهضة ضحايا، أجيال بأكملها من الضحايا، لأن عمليات النهضة والبناء وغرس المشروعات تحتاج إلى بعض الوقت لتدخل منتجاتها إلى الأسواق، ولا زلت أسيراً لذلك المشهد الصغير الذي أُنتجت الدراما التي تخصه على مشهد هائل كبير، كان المشهد الكبير يقام يومئذ على سفح جسر الجريفات-المنشية الذي بلغت كلفته ما يقارب الثلاثين مليون دولار، كانت الخرطوم يومها حاضرة كلها في هذا الاحتفال الباذخ الكبير الذي يشهده رأس الدولة ومساعدوه وكل الأجهزة الولائية والمحلية، وسجلت الجماهير يومئذ حضوراً كبيراً، وكانت عبقرية هذا الإنجاز؛ أن جعل الجسر المضارب الشرقية ترقى إلى درجة «المنشية شرق»، كان المواطن في السابق يحتاج إلى «مسيرة ضحوية» بأكملها من الجريف شرق عبر حلة كوكو وكوبر وجسرها وسجنها ليعبر بشق الأنفس إلى بري وناصر والمنشية المستحيلة، كنا ننفق الساعات الطوال على سفح جسر القوات المسلحة، والجماهير تزحف زحف الفاتحين إلى قلب الخرطوم، فمن لم تسقه السياسة يوماً إلى الحبس في هذا السجن الشهير، فلا محالة يكون قد أخذ حظه لساعات طوال من الأسر في سفح سجن وجسر كوبر، فمن لم يمت بالسيف مات بغيره، غير أن جسر الجريفات - المنشية قد ردم الهوة الثقافية والاجتماعية والمادية الشاهقة بين مدن شطري النهر، فقبل أن تكمل دعاء الخروج من شرق النيل، فأنت «الكتف بالكتف والحافر بالحافر» مع أبناء ذلك الحي الثري، غير أن المشهد الصغير الذي أسرني وأرقني، بل ظل يؤرقني حتى الآن، هو أن قال لي أحد المواطنين البسطاء وهو يجلس في ركن قصي من أركان ذلك الاحتفال المهيب، قال لي «إن كيس رغيف واحد خير لي مما طلعت عليه شمس هذا الجسر»، والرجل معذور ساعتئذ، وأهلنا يقولون (الزول بونسو غرضو)، وغرض هذا الرجل هو الخبز والكسرة والسكن، فالجماهير تطرب جداً للمشروعات التي تخاطب قضاياها مباشرة، ومن هذه المشروعات، مشروع الإسكان الضخم الذي يشرف عليه شخصياً الأستاذ علي عثمان محمد طه، نائب الرئيس، ويديره الوزير غلام الدين، وذلك لكونه يصنع المدن الميسرة والمتاحة للجماهير. أخي دكتور غلام الدين عثمان، الأمين العام لهذا الحلم الكبير الذي تنتظره الجماهير، بالأمس اضطرت إحدى الأسر أن تتلفح فقرها وتأتي بأبنائها على متن عوزها إلينا بالصحيفة، وملخص القصة المؤلمة، أن هذه الأسرة قد فشلت في دفع إيجار بيت بالحارة بعد المائة على سفح قلاع كرري بأم درمان، وقالوا من حق دولتنا، وفي ظل ولايتها الجماهيرية الجديدة أن تصنع لنا بيتاً، وهؤلاء المساكين فقط عرفوا الطريق بصعوبة إلى مقر الجريدة، ولم يعرفوا الطريق إلى غيرها من مؤسسات الدولة، فكل تفاصيل القصة المؤلمة بطرفنا.. وعشمنا فيكم كبير، ألا تهدأ أقلامنا ولا ينام صندوقكم حتى ينام أطفال هذه الأسرة في بيتهم.