{ يُزيِّن الصحفي سيرته المهنية، ودوناً عن بقية المهن، بأرقام البلاغات والتوقيفات والاعتقالات والزنزانات التي تعرض لها طوال عمله الباحث فيه عن الحقيقة والأماكن المظلمة ليسقط عليها ضوء (الشوف) أولاً والتحقيق والنتائج السعيدة أخيراً. { ولا يوجد صحفي يعمل بكامل ضميره بدون تقسيم أو تنويم مغناطيسي لم يتعرض لتهديد شفاهي أو مكتوب ولم تتم مساءلته، إن كان عبر الصحيفة وهيئتها التحريرية أو مجلس الصحافة أو نيابة قسم شرطة، أو لم يتوقف قسرياً عن العمل أو يحتجب في بعض الأحيان لأنه مسّ خلايا نحل حساس تجاه الضوء والصوت. { ولن يكون الصحفي جميلاً في تحقيقاته وحواراته وتقاريره وحتى خبره ما لم يرَ في الوجود شيئاً قبيحاً ويعكسه بمرآته التي تراعي القيم ذات الأبعاد الاجتماعية والعرفية والدينية والسياسية والاقتصادية، ...إلخ.. وحيث لم يدرسها في كلية أو يتم امتحانه فيها للحصول على أحقية التقيد في لائحة العمل الصحفي.. إنما هي من واقع المحاذير التي يقيده بها ضميره المهني. كل ذاك ليراه الناس شيئاً جميلاً يراعي مصالحهم وحقوقهم.. ويغطى شؤونهم وشجونهم. { والحقوق الصحفية لذات ذاك الباحث عن الحقائق إنما تختفي في دهاليز سحيقة من الأوراق والمعاملات المكتبية والأرقام المفرقة (بداش وسلاش) لتبين المواد الجنائية والقانونية التي تقيده من رأسه حتى أخمص قدميه كي لا يهبش في ما لا يخصه. { فما يخص الصحافة في العالم من قوانين واسعة وصلاحيات متمددة تجعل الأبواب تنفتح في وجه حامل بطاقة صحفي دون غيره من طالبي المعونات والمشورات لهذا يتبادل بين الناس لقبها بأنها (صاحبة الجلالة) و(السلطة الرابعة) لكن تنتهي صلاحيتها كقوانين تماماً في بلدنا إذا دخلت المصالح والنفوذ من ذات الباب فيُغلق في وجه صاحبة السلطة ذاك الباب بل وربما يمشي وجلالتها (كداري) خارج المكان على بلاط ساخن من الإحراج والإذلال. { ولن يُسن قانون واحد يمكن أن يعيد لها ولحاشيتها الكبيرة قليل كرامة مهنية ما لم ترعوِ من المضى قدماً في فتح الأماكن المغلقة في العقول والمؤسسات والأوراق والمكاتب. { والمكاتب الصحفية في تلك الأماكن والوزارات تعرف معاني ومقاصد ذاك الإغلاق بدعاويها المضللة أن (المسؤول في اجتماع) أما سيادته فيغلق في نفس الوقت هاتفه الممنوح ضمن مخصصات العمل العام لتعرف برسالة مضمنّة أن (الكداري محمِّدك) وأن جلالة قدرك كصحفي يلزمها بعض البهار الحار من توابل الجو الخرافي لك كشخص مهم تعرف فلان وعلان المهمين بنفس قدرك! وأن سيادتك ليس مجرد صحفي عادي يحمل أوراقاً عادية أو مسجلة أكثر بساطة، إنما أنت كائن أسطوري تستطيع بجرة قلم أن تحيله الى كراسي الاحتياطي السياسي إن لم تطح به في مشوار (كداري) خارج بوابة مسؤوليته! فهو مناخ استوائي لا شك غير متوقع الحرارة والأمطار والملل النهاري ليوم ساخن. { والملل الذي أصاب المجلس من متابعة مسلسل البلاغات والتوقيفات المستحدثة بين أبناء المهنة ذاتها جعله يقرر بين فينة وأخرى إسقاط العقوبات عليهم كنوع من (أنا أعاقب إذن أنا مجلس) ومن فم مملوء بهواء التثاؤب الممل يتراوح المجلس في مشاوير (كدارية) بين لجان ورباعيات وآليات لتفعيل ميثاق الشرف الصحفي والعمل به لإيقاف المسلسلات الغريبة وتهدئة الأقلام المزمجرة الثائرة لشرفها المراق الحبر على صفحات أقوال قلم آخر له نفس الزمجرة والشرف. { وهل الشرف يخلد للسكون ويصبح عنصراً خاملاً في الكيمياء الإحيائية لعقل وروح الصحفي فيحتاج أن ينشّط مجاله الأخلاقي ويفعّل؟ فاللجنة التي تجتمع وتقرر تنسى أن أسباب اللجوء الى الشره الانتقامي بالردود ساخنة الهواء هذه إنما لأنها، اللجان، لم تفعّل هذه الآلية أو أن إغلاق الأبواب وفي موسم المشاوير الكدارية والهواتف المغلقة! ولم تنشّط كيمياء حلولها ولجانها الموقرة لمّا خملت عناصره في ترقية المهنة وتنظيم العمل الصحفي وتنقيته من شوائب الدخلاء والمسقطين، كما تفعل كافة المجالس المهنية الأخرى، فحينها لن تحتاج للجان تضع معادلات لتفعيل الذرّة الشرفية في نفوس مهنيين مات جلد أقدامهم من المشاوير الباحثة عن الحقيقة طوال سنوات عملهم التي كتبوها إما بالخبرة أو بالجهاد الأكاديمي.. ثم العملي. { إن العمل الصحفي ليس مجرد عقوبات كما نعيشه للأسف الآن في زمان التغيرات والتوحيد هذا. ففي كل العالم هو الذي يبيّض الأعمال التي تحتاج الى الضوء ويسوّد وجوه المنافقين والمتملقين. هو الذي يفضح بحقائقه شهوات الملوك والأمراء والوزراء ورجال المجتمع لحب المال والسلطة والنساء، أو الرجال! ودونكم الكتب التي تنشرها الجرائد السودانية للفضائح والغريب أن الذين يقومون بإعدادها صحفيون! { فالصحفي الحقيقي هو الذي يستطيع أن يعمل في كل مجال حتى الطب القاسي ده لأن له في نفسه ميزات تفتقد في ظلمات النفوس الأخرى وهي التي تجعله مصدقاً بين يديّ الناس والقانون حينما يقسم بشرفه. فالشرف الصحفي، لعمري، لا يحتاج لتفعيل؛ إنما العمل الصحفي المحترف هو من يحتاج لتفعيل وتقييم وتمييز وتقنين وتفريز بين الصحفي الشريف والحرّيف والمخيف!!