{ دخل شابان إلى ردهة المستشفى يجريان، وهما في قمة انزعاجهما، وبملابس لا تليق إلا بالحوائط الساترة.. على الذوق الغالب، دخلا وهما يحملان طفلاً في حالة إغماء، مصاباً بطلق ناري في رأسه نتيجة لهو بريء لم يتحسَّب العقلاء لنتائجه، بسرعة فائقة كان الطفل بين يدي طبيب الطوارئ لإجراء اللازم، وقبل أن أجيب على صغيري بجانبي عن سؤاله «يا بابا هو ماله؟»، دخلت سيدتان تبدو عليهما (الشلهتة) تبعتهما أخرى يجرانها جراً وهي في حالة صراخ وانهيار، علمت لاحقاً أنها أم الطفل. ضممت ابني (علي) ذا السنوات الثلاث حينها إليّ وحمدت الله على أن ما به مجرد حُمّى لا غير. خرجت من المستشفى وفي ذهني صورة الطفل وهو بهجة البيت وفاكهته، ثم لحظة الإصابة، ثم البحث عن رجل رشيد، أعصابه في ثلاجة، ليتعامل مع الحدث، ثم صورة الأم المكلومة. { حسناً، لقد عدت في اليوم التالي لسبب ما، وسألت عن حالة الطفل فعلمت أنه قد توفي إلى رحمة مولاه (موت الله والرسول). سيدي الدكتور الأبوابي، إخوتي أطباء إضراب الطوارئ والإصابات، أتراني ناظراً إلى شهاداتكم أو مقاماتكم أو مظلمتكم إن كنت والداً لهذا الطفل وتوفي بين يديّ وأنتم تنظرون؟! أترون أن أباه كان عاذركم قائلاً (يا حبّة عيني) إن مات ابنه ميتته تلك وأنتم تنظرون؟! إنها جريمة مكتملة الأركان، وبالطبع الجريمة ليست هي موت المصاب لأنه ميت ميت، فتلك أقدار الله، لكن الجريمة أنكم تحملون الناس حملاً على الكفر بقدر الله والتمسك ب(لو)، و(لو) تلك لربما قادت إلى جريمة أخرى في حق الأطباء تلوكها الألسن على رؤوس الأشهاد حين لا ينفع الندم. سادتي الأطباء، يحملكم الشعب في حدقات عيونه، وكتبنا عن معاناتكم دون سائر المهن، فما هذا الذي يجري؟ نصيحة مراقب: «ما هكذا تورد الإبل»، وقصة أخرى أحدثكم عنها، إذ طرقوا بابي بعد منتصف الليل قالها قريبي وهو يحدثني في تلك الليلة من ليالي القرية بولاية نهر النيل كانوا من العرب الذين يسكنون جوار (القوز)، وطفق يحكي: «طلبوا مني ليمونة، وعندما سألتهم ماذا يريدون بها في هذا الوقت المتأخر من الليل أخبروني أن طفلاً لهم قد لدغته عقرب، حاولت إقناعهم بأن نحمله إلى المستشفى القريب من المكان إلا أنهم رفضوا فلبست ملابسي وذهبت معهم إلى حيث الطفل، ووجدته في حالة يرثى لها وأظنها كانت عقرباً كبيرة وسامة، وعلمت في دواخلي أنهم لا يريدون حمله إلى المستشفى لأنهم لا يملكون رسوم الطبيب، فأصررت عليهم أن نحمله إلى المستشفى ولم يكن في جيبي غير (عشرين) جنيهاً. ساهرت معهم يومي ذاك حتى اكتمال جميع مراحل العلاج والأمصال المعتادة وأملاح التروية وغيرها من العمليات الطبية، وعند الخامسة صباحاً دخلت على الطبيب ونحن خارجون، فأخبرني أن الرسوم والمنصرفات هي خمسة وستون جنيهاً على ما أذكر، فخاطبت الطبيب قائلاً: «دي عشرين جنيه وما عندنا غيرا والناس ديل لو ما جبتهم أنا، الولد ده كان مات في مكانه»، فأعفاهم الطبيب من كامل المبلغ ولم يتسلم حتى جنيهاتي العشرين. انتهى قريبي من السرد وراح يحدثني عن مثل هؤلاء الناس الذين يموتون لأنهم لا يملكون حتى ثمن الخدمات المنقذة للحياة.. (تقولوا لي إضراب في الطوارئ)!! { سادتي أطباء السودان، أطباء بلدي المثخن بالجراح، قد أنصفكم السيد رئيس الجمهورية دون سائر المهن، وتستحقون أكثر ونحن نعلم، وإن كانت لديكم ثمة مشكلات مع جهات معينة (فطالعوها الخلا)، أما حياتنا وحياة ذوينا وأبنائنا وبناتنا فخط أحمر لا يحتمل هذا التهريج والعبث. مهندس/ مجاهد بلال طه { تلويح: شكراً للأخ مجاهد بلال على رسائله القيمة والهادفة التي لم تجد حظها الكامل من اهتمامي بعد، ومهما اختلفت الرؤى حول أزمة الأطباء؛ يبقى العشم الأخضر في إنسانيتهم قائماً، على أمل أن تتمكن الجهات ذات الصلة من توفيق الأوضاع بما يكفل لنا علاجاً متاحاً وكاملاً فبعضنا لا يستحق أن يدفع الثمن مهما كانت الأسباب موضوعية.