{ ولئن كانت بيروت بمثابة ذاكرة الأمة العربية، ففي المقابل فإن الخرطوم هي العاصمة العربية الأولى في مذكرة الإرث العربي التليد، وذلك أن ظلت تلك المعادلة على ما هي عليه، القاهرة تؤلف وبيروت تطبع والخرطوم تقرأ، ولئن كانت بيروت أيضاً هي العاصمة الملهمة والملهبة لمشاعر وأشعار الراحل المقيم نزار قباني، فإن الخرطوم على الأقل تحتفظ بشهادة بازخة حررها ذات صيف بالخرطوم الشاعر نزار نفسه، قال الرجل (أحس في كل العواصم العربية كما لو أنني شاعر، إلا في الخرطوم فأشعر كما لو أنني قديس). { غير أن هنالك مواجع عديدة تجمعنا مع الدولة اللبنانية، ولعل أشهرها حالة عدم الاستقرار السياسي التي يرزح تحت وطأتها البلدان، وذلك لكون البلدين يتشكلان من عدة مكونات متباينة، وكنا لوقت قريب، لما تواجهنا بعض المصاعب، نقول (نخشى من لبننة السودان)، ولكن أرجو ألا يأتي ذلك اليوم الذي يقول فيه الإخوة اللبنانيون (إننا نخشى من سودنة لبنان)، وذلك عندما تهزم (السودنة اللبننة) وتتفوق عليها في ثقافة التجزئة والتشظّي.. و.. لكن دعونا نقترب أكثر من موضوعنا. { إن نقيم ندوة فكرية في بيروت بالتعاون مع حزب الله ربما يكون ذلك مبرراً كافياً لتلاحق بالأجهزة الأمنية، وذلك لكون السودان وحزب الله موجودان في (اللِّستة) الأمريكية الشهيرة، التي تقول واشنطن إنها ترعى الإرهاب، لكن أن تقيم حفلاً في بيروت فهذه فضيلة ربما تُشكر عليها، فأشهر وزارة في بيروت هي الوزارة التي تُعنى بالسياحة والتراث والغناء، فكما تتقاتل الأحزاب هنا على وزارة التجارة، فالقوم هنالك يتقاتلون على وزارة السياحة، لكونها الوزارة ذات الموارد الغزيرة في بلد سياحي ويشجع السياحة، ومن هنا ينهض السودان المُغلق، كما أنشد يوماً الشاعر العربي أحمد مطر.. لما ضاقت حريات باريس على سعتها يوماً من قطعة قماش تضعها طفلة مسلحة على وجهها. واهاً.. أرائحة الزهور تضير عاصمة العطور أيضيق دوح بالطيور؟! والسؤال هنا كيف ضاقت بلد المحافل والحفلات الشهيرة (بحفلة خيرية) محدودة؟! { والقصة للذين لم يتابعونها، أن نفراً من الجالية السودانية في بيروت قد أقاموا «حفلاً خيرياً» لصالح علاج بعض الأطفال، وكانت المفاجأة أن قوة أمنية داهمت هذا الحفل وفضته بالقوة، ولئن خلّفت هذه المداهمة بعض الجراح بين المحتفلين، إلا أن الجراح التي أصابت الدبلوماسية في البلدين كانت أعمق، فلما خرجت مسيرة محدودة في الخرطوم منذ أيام إلى مقر السفارة اللبنانية تندد بهذه الواقعة، لم يملك السيد السفير اللبناني في الخرطوم إلا أن يقابلها بالحلوى، فلقد وزعت السفارة الحلوى بين جموع المتظاهرين، في إشارة إلى أن بيروت عُرفت بصناعة الحلوى الشامية ولم تعرف طوال تاريخها بصناعة الأزمات مع الأصدقاء، وسبحان الله! إن تداعيات هذه «الأزمة العابرة» في بيروت كانت أكثر ضجيجاً من الخرطوم نفسها!، فالخرطوم (الفيها مكفيها)، فكل المدفعيات اللبنانية قد أرسلت قذائفها منددة بهذه الحادثة. الثائر وليد جمبلاط من الجيل طلب من حكومته ملاحقة الجناة، وقد حفل حزب الله الشيء ذاته، كما ظهر في سماء هذا الحدث رئيس الوزراء الشيخ سعد الحريري معتذراً للشعب السوداني، أيضاً كرّر الإعتذار ذاته الرئيس اللبناني الميشيل سليمان. { وأتصور أن بعد هذا الحدث وتداعياته ينتظر الحكومة السودانية الكثير لتفعله تجاه رعاياها بدول الشام مجتمعة، فهنالك هجرات كثيرة غير شرعية، وعلى الأقل في بيروت التي سفّرت مجموعات من المقيمين غير الشرعيين لتجد أن السجون قد امتلأت من جديد، والسؤال الذي يفرض نفسه هو «ماذا يفعل السودانيون في لبنان»؟ ففي بلاد المليون ميل مربع مُتسع للحفلات الخيرية.. { مخرج.. شاعر الطلاسم اللبناني إيليا أبو ماضي: أسير أنت يا بحر ما أعظم أسرك أنت مثلي أيها الجبار لا تملك أمرك!