تقرير عزمي عبد الرازق، عبد الرحمن العاجب شهدت الدبلوماسية السودانية خلال الأسابيع القليلة الماضية حراكاً واسعاً على مستوى الوزارة بالداخل والسفارات بالخارج، صنفها البعض تحت طائلة ما يتعارف عليه صحفياً على أنها (أزمات صامتة)، بيد أن معظمها لاح للعيان. فقد شهدت العلاقات السودانية الأوغندية توتراً بسبب قرارها عدم توجيه الدعوة للرئيس السوداني عمر البشير لحضور قمة الاتحاد الأفريقي التي تستضيفها كمبالا الشهر الجاري، قبل أن تتراجع عن هذا القرار، وكان الرئيس الأوغندي يوري موسيفيني قال إن البشير اُستبعد من قائمة المدعوين للقمة السنوية، وهو ما أثار غضب الخارجية السودانية، قبل أن تتراجع أوغندا وتعلن أنها وجهت الدعوة إلى البشير. وكانت الخارجية السودانية قد هددت الحكومة الأوغندية بتقديم طلب للاتحاد الأفريقي بنقل القمة الأفريقية إلى عاصمة أخرى بدلاً من العاصمة الأوغندية كمبالا، كونها لا تلتزم بقرارات القمة الأفريقية السابقة. واعتبرت الخارجية، على لسان المتحدث الرسمي باسمها، أن أوغندا بموقفها النشاز توجه ضربة قاسية إلى الاتحاد الأفريقي نفسه، الشيء الذي من شأنه أن يحدث شروخاً كبيرة في الصف الأفريقي. فيما جاء توضيح الخارجية الأوغندية مؤكداً على أن الدعوة وُجهت بالفعل للرئيس السوداني البشير لحضور قمة الاتحاد الأفريقي، وقالت كمبالا إنها تحترم موقف الاتحاد الأفريقي في ما يتعلق بعدم التعاون مع المحكمة في قضية البشير. وأوردت وسائل إعلام سودانية وصحف يوغندية تقارير تفيد بأن الرئيس اليوغندي موسفيني اتصل بالبشير للاعتذار، قبل أن يوفد مبعوثةً من قبله لذات الغرض. العلاقات السودانية المصرية شهدت في الفترة الماضية هي الأخرى ما يشبه التباعد في الرؤى، وعلى الرغم من التعاضد وعمليات التنسيق المشترك في قضية (مياه النيل) فإن سماء البلدين لم تخلُ من سحابة صيف حرصت خارجية البلدين على انقشاعها عبر القنوات الدبلوماسية بغية إعادة (المياه لمجاريها). زيارة رئيس حركة العدل والمساواة خليل إبراهيم الى العاصمة المصرية واستقباله هناك كانت أول محطات حنق الخرطوم تجاه القاهرة، ثم نشبت بأعقابها أزمة لاحقة بسبب تصريحات بشأن مصر أطلقها الوزير في منتدى بالخرطوم. كرتي وجّه انتقادات شديدة اللهجة إلى مصر ودورها الضعيف تجاه قضايا سودانية مؤثرة في العمق الاستراتيجي لها، كما هاجم دولاً أفريقية قال إنها تحفز الجنوبيين على التصويت للانفصال. وانتقد كرتي الذي كان يتحدث في ندوة بالخرطوم، تعامل مصر مع ملف السودان، قائلاً: (ظللنا نشكو من ضعف معلومات مصر عن الحياة السياسية في السودان وتعقيداتها... ودورها لا يزال متواضعاً تجاه قضايا مهمة تؤثر في العمق الاستراتيجي لها). الخرطوم أجرت اتصالات عالية المستوى مع القاهرة لاحتواء ما سمّته بسوء الفهم الذي حدث، وكان أحد المسؤولين الحكوميين قد ذكر أن كرتي تحدث في ندوة في الخرطوم عن (تقرير المصير الحق والواجب) قبل يوم من أدائه اليمين الدستورية، ولم ينتقد مصر وإنما رأى أن دورها ينبغي أن يكون أكبر خصوصاً في ما يتصل بوحدة السودان وتقرير مصير الجنوب عبر الاستفتاء المقرر في العام المقبل، مؤكداً أن حديث الوزير (أُسيئ فهمه وفُسّر على نحو غير صحيح). المراقبون ينظرون للأزمة من عدة جوانب أبرزها أن كرتي يريد أن يوجّه رسائل للدول التى تتربص بالسودان بأن زمن الدبلوماسية الناعمة ولى وجاء زمن الدبلوماسية الخشنة سيما وأن السودان يستعد لمواجهات محتملة مع المجتمع الدولي بخصوص المحكمة الجنائية، بينما يمضى آخرون إلى أن كرتي بالفعل قصد توجيه رسالة شديدة الخصوصية لمصر بالرغم من أن السودان يدخر مصر للعب دور رئيسي في ملف الجنائية وهي الدولة الأكثر قدرة على تليين المواقف الدولية. من جانبه وصف الدكتور وليد السيد، نائب مدير مكتب حزب المؤتمر الوطني الحاكم فى السودان بالقاهرة، تصريحات وزير خارجية بلاده بأنها (عتاب الأحبة)، مؤكداً أنها ليست مؤشراً على توتر العلاقات بين القاهرةوالخرطوم، وإنما تعبر عن حرص سوداني على أن يكون لمصر دور أكبر فى تغليب الوحدة على الانفصال بالنسبة لأبناء جنوب السودان. وفسر البعض تعيين مدير مكتب المؤتمر الوطني بالقاهرة كمال حسن علي في موقع وزير الدولة بوزارة الخارجية بأنه يدعم تنمية فرص التعاون والحوار بين البلدين. لاحقاً تحدثت الأنباء، التي حملتها الوكالات، عن وصول وفد مصري رفيع المستوى للخرطوم سراً لاحتواء فتور العلاقات بين البلدين، ويسعى كذلك عبر زيارة إلى جوبا لإقناع رئيس حكومة الجنوب سلفاكير ميارديت بانعقاد اجتماعات للشريكين في القاهرة عقب شهر رمضان، والتشاور كذلك بشأن ملف مياه النيل، وسبل تنمية المشروعات التنموية المصرية في الجنوب. غير أن الجند الأول من المسائل التي يحتقبها الوفد ضمن مهمته هو بلا شك: تسوية بعض المشكلات التي فجرتها وسائل الإعلام في الفترة الأخيرة. كل هذا الحراك الدبلوماسي لم يسفر شيئاً بعد أن اندلعت أزمة إعلامية أخرى بين البلدين في أعقاب تصريحات رئيس الجمهورية في بورتسودان مؤخراً أشار فيها لتبعية حلايب وأنها سودانية، وليس بعيداً عن مسلسل الملفات التي انشغلت بمعالجتها الخارجية السودانية تجيء تداعيات حادثة الأوزاعي بالعاصمة اللبنانية بيروت لتتحرك عربات الإطفاء بين دبلوماسيتيْ البلدين وتمارس صبّ المياه على حرائق العلاقات التي اشتعلت دونما سابق إنذار. وكانت العلاقات بين (السودان و لبنان) شهدت أزمة سياسية كبيرة وتوتراً متزايداً بسبب تعرض مجموعة من السودانيين الى إساءات عنصرية من بعض عناصر الأمن اللبنانى والأمر الذي زاد الامور تعقيداً هو رفض الحكومة اللبنانية تقديم اعتذار رسمي في نفس الوقت الأمر الذي زاد من تأجيج الخلاف بين البلدين، وكردة فعل لهذا الحدث تظاهر ناشطون سودانيون أمام السفارة (اللبنانية) بالخرطوم وقدموا مذكرة للسفير (أحمد الشماط) تطالب باعتذار فوري للشعب السوداني نتيجة لما تعرض له إخوانهم من (اعتداءات)، ومن جانبه وعد (الشماط) المتظاهرين بالاعتذار فور اكتمال التحقيقات ومعرفة الأخطاء، وشدد على رسوخ العلاقة بين البلدين. وفي ذات السياق وصف السفير السوداني في لبنان الحادثة ب(الغريبة والشاذة) وأكد أن الحادث لن يمر من دون محاسبة. وفي ذات المنحى شجب (الشماط) بشدة ما أقدم عليه المتظاهرون السودانيون بشطب (الأرزة) اللبنانية باللون الأحمر بعلامة (اكس) واعتبر (أن هذا التصرف إهانة للدولة والشعب اللبناني وطالبهم بالاعتذار للشعب اللبناني)، وأضاف أن هذا التصرف يجب أن يكون ضد إسرائيل التي اعتبرها عدو (لبنان والسودان) والعالميْن العربي والإسلامي. وكانت وزارة الخارجية السودانية قالت فى بيان صحفي سابق لها إن السفارة السودانية ستقوم بمعالجة أمر إقامة السودانيين فى لبنان لتكون بطريقة شرعية كما تعمل على رد الحقوق والاعتبار لمن تضرروا جراء حادثة منطقة (الاوزاعى). وفي ذات الاتجاه قال بيان لحزب الله نُشر على موقعه الإلكتروني: إنه يدين ما ارتكبه بعض عناصر الأمن العام من ممارسات بحق مواطنين سودانيين وأفريقيين يعملون في لبنان خلال تجمعهم قبل أيام في منطقة (الأوزاعي) وأبدي الحزب تضامنه معهم في محنتهم التي سببتها هذه الممارسات العنصرية، ولكن طالما أن الدبلوماسية هي إدارة العلاقات الدولية عن طريق المفاوضات أو طريقة معالجة وإدارة هذه العلاقات بواسطة (السفراء) والممثلين الدبلوماسيين فهي عمل وفن الدبلوماسيين ولذلك كان يجب على الدولتين أن يسعوا الى حل الأزمة التي نشبت عبر السفراء والممثلين الموجودين في الدولتين عبر الدبلوماسية. افتتاح مباني السفارة الأمريكيةالجديدة في منطقة (سوبا) هو الآخر لم يمر بكل السلاسة التي كان يُمنِّي بها الدبلوماسيون أنفسهم ولم يتوقعها أفراد وفد أمريكي حطت طائرته على البلاد الأسبوع الماضي بقيادة مساعد وزير الخارجية للشؤون الأفريقية، فقد انطلقت مظاهرات محدودة دعت لها عناصر من (حزب التحرير) في العاصمة الخرطوم، وطالبوا فيها الحكومة بإغلاق السفارة وطرد ممثليها، وتجمع المتظاهرون في منطقة بالقرب من مقر السفارة مرددين شعارت مناهضة للولايات المتحدة ومنددين بالجرائم التي ترتكبها ضد المسلمين، كما رفعوا لافتات ترفض التطبيع مع (واشنطون) وتطالبها بالخروج من البلاد. ولم تقف أزمة السودان مع الدول الخارجية عند هذا الحد حيث نجد أنه في هذا الاتجاه قد احتج السودان على التحركات العدوانية التي تقوم بها حركة العدل والمساواة السودانية في دارفور التي تستضيف مدينة (طرابلس) الليبية زعيمها الدكتور خليل إبراهيم منذ الشهر الماضي بعد أن قامت السلطات التشادية بطرده من أراضيها. وفي هذا السياق كانت من قبل قد طالبت وزارة الخارجية السودانية الجماهيرية الليبية إنهاء وجود خليل في أراضيها ودعتها للضغط عليه للمشاركة في مفاوضات الدوحة التي انطلقت في الأسابيع الماضية وأكدت الخارجية السودانية في ذات الوقت أنها قد طلبت من (طرابلس) أن يكون وجود خليل إبراهيم فيها (عابراً) وألاّ تسمح له بالإقامة، أسوة بما فعلته جارتها تشاد في التاسع عشر من شهر مايو الماضي. وعبر اتصال هاتفي أجراه السيد رئيس الجمهورية مع نظيره الليبي، طمأن القذافي البشير بأن بلاده لن تسمح بأي عمل عدائي ينطلق من ليبيا، كما أعرب وزير الخارجية عن تقدير الخرطوم لمواصلة ليبيا جهودها ودعمها للسلام والاستقرار في السودان مثمّناً حرصها على استكمال السلام وتحقيق الاستقرار في إقليم دارفور. وأشاد كرتي في تصريح إلى وكالة السودان للأنباء بتأكيدات القذافي خلال الاتصال الهاتفي مع البشير بأن ليبيا لن تكون منطلقاً لأي أعمال عدائية ضد السودان، قبل أن تحمل القرارات الصادرة من الداخلية السودانية أنباء إغلاق السودان لحدوده البرية مع الجماهيرية اعتباراً من مطلع يوليو الجاري بسبب تهديد الخارجين عن القانون، ما يوحي بأن فصلاً جديداً من توتر العلاقات قد تم تدشينه فعلياً بين الخرطوموطرابلس. ومن بين كل هذا الدخان تتبدى الخارجية السودانية بطاقمها الجديد كأكثر الوزارات التي دخلت الفورمة السياسية عبر عمليات إحماء متواصل في الأسابيع الأولى لتشكيل وزارة ما بعد انتخابات أبريل، ويتبدى كذلك وجه القائد الأسبق لقوات الدفاع الشعبي، وأحد الوجوه الصارمة التى تتسم بالوضوح والمباشرة في التعبير عن القضايا السياسية، صاحب التاريخ الحافل بالعطاء والمواقف المتشددة في بعض الأحيان، ما وضعه تحت طائلة التصنيف عند البعض بكونه من (صقور) المؤتمر الوطني. فهل يفلح الوزير (كرتي) في إنجاز المهمة التي اُختير لها؟