أثار مقال سابق لي في هذه الصحيفة عن استخدام الانترنت في التوظيف مجموعة من الحوارات حول دور الاتصالات وتقنية المعلومات في المساعدة الاقتصادية والتنمية في ظل تنامي الاستثمار والاستخدام لوسائل الاتصال ، والسؤال الذي يطرح نفسه هل حجم الاستفادة من هذا القطاع المهم بنفس حجم الاستهلاك في السوق السوداني؟ , تشير عدد من الإحصاءات في البلاد أن الشركات العاملة في مجال الاتصالات استثمرت مئات الملايين من الدولارات في البنى التحتية، وهناك موجات استثمار عالمي ومحلي للإفادة من المداخيل العالية التي يقدمها هذا القطاع , بل إن قطاع الاتصالات صار إحدى حكايات النجاح اللافتة للانتباه ولاشك أن هناك تغييرات عالية ملحوظة في قطاعي التعليم والأعمال واستفادة كبيرة في التواصل الاجتماعي عبر العالم وهناك دول قدمت دروساً عملية في محاولات النهوض باستخدام قطاع الاتصالات والمعلومات مثل كوريا،ماليزيا و الهند كبلدان مصنعة لمعدات الاتصالات, Hardware وصناعة برمجيات الاتصالات والحوسبة Software. الاتصالات والمعلومات تظهر عادة كعنصر تكنولوجي، لكن الذي ينظر للأمور بعمق يتضح له أنها أكبر من ذلك هي ذات تأثير اقتصادي وفكري وحتى سياسي , ولننظر مثلا إلى المعارك الشرسة في المواقع الالكترونية مثل سودانيزاونلاين بين الحكومة والمعارضين, وفيضان التعليقات على مواقع الصحف على الانترنت حول قضية معينة ومواقع التواصل الاجتماعي , لقد أصبحت الاتصالات وتقانة المعلومات جزءًا لا غنى عنه لحياتنا اليوميَّة , توجه العقول وتحدث تحولات في المجتمع والتعاملات ، وقد تسهل وصول المجتمعات البعيدة والفقيرة إلى عدد من الأحداث بل وحتى الخدمات الأساسية مثل المعرفة والصحة والتعليم والتجارة , هذا إذا استخدمت استخداماً صحيحا , أما إذا تركت بغير خطط واستراتيجيات واضحة واستشراف مستقبلي فإنها قد تعيق النمو وتنحو منحى غير ايجابي حسب مؤشرات المنظمات الدولية المعنية بالأمر ، وقد تزيد من الفقر من خلال إهدار الوقت والمال وتصبح مصدر إزعاج بدلاً من النفع إذا لم توضع في إطارها الصحيح. ومن المهم التذكير أن المحفز الأساس لنمو قطاع الاتصالات السوداني هو سياسة التحرير التي وضعت هذا القطاع كأول تجربة للتحرير، وذلك برفع سيطرة يد الدولة عن هذا المرفق ومنح القطاع الخاص فرصة التشغيل والتنافس في تقديم الخدمة , وتجربة الاتصالات تشير إلي نجاح القطاع الخاص في إدارة أحد أهم الخدمات التي لها تأثير اجتماعي وأمني وسياسي ،حيث أصبح الانترنت صار احد محركات التفكير والرأي العام للأجيال الجديدة. وفي تقدير كثير من المختصين أن المرحلة التالية هي مرحلة إحداث تغيير في ثقافة المواطن لاستخدام الاتصالات والمعلومات لإنجاز مهام أكثر وأسرع، وهنا تحضر مقولة الأستاذ كمال عبد اللطيف أنه فيما الوزراء يهتمون بالطرق ليتحرك الناس أنه يهتم بالخدمات الالكترونية لئلا يتحرك الناس, فلابد من تحويل مثل هذه الأفكار لمشروعات حية تريح الناس من هواجس الترحال والصفوف والانتظار التي أرقت مضجع الكثيرين من المتعاملين مع الخدمة المدنية والقطاع الخاص ليجد الانسان العادي من خلال الاتصالات والمعلومات معاملات أكثر راحة وأوفر وقتاً كما يحدث في الدول الأخرى , ولابد أولا من تغيير ثقافة الموظف الحكومي والخاص قبل الآخرين من أجل احترام التعامل الالكتروني والزمن والأولويات والانجاز , وهي مهمة شاقة تنتظر من يفكر في استخدام الاتصالات من أجل التنمية. ولابد هنا من الإشارة إلي النقد البناء الذي بدأه د.عز الدين كامل مدير الهيئة القومية للاتصالات من أن استخدام الهاتف للتواصل الصوتي فقط دون وجود تأثير فعال على قطاع الأعمال هو استخدام استهلاكي غير تنموي، وهو ما أشار له الرئيس البشير في بعض تصريحاته بأن الشعب السوداني تكلم بالموبايل بأكثر من أربعة مليار دولار في السنوات الماضية , ومع هذه الإشارات لابد من دراسة تجربة التطور الذي نهض به القطاع المصرفي في استخدام التقنية في تدعيم أنشطة التعامل المالي من خلال شبكة البنوك والمقاصة الالكترونية والصراف الآلي وما وفرته من وقت وأمان وان كان لعدد يسير من المتعاملين حتى الآن , بل وتجربة تحويل الرصيد التي أثبتت ذكاء المواطن السوداني في استخدام الرصيد كوسيلة لإيصال مبالغ مالية سريعة دون المرور بالإجراءات البنكية المعقدة , هذه التجارب تستدعي دعم قطاع الاتصالات بمزيد من الأفكار والمبادرات لإعادة ترتيب عملية التحويل المالي عبر الموبايل ليصبح مقنناً بغطاء تنظيمي ومصرفي جيد يحفظ للمواطن حقوقه ويمكنه من المزيد من التعاملات ، وفي تقديري لابد من تطوير سياسات ونظم وآليات جديدة للإفادة من الموبايل كأداة وحافظة مالية بدأت الدول المتقدمة مثل اليابان وألمانيا في استخدامها عبر mobile commerce، هذا ما يلقي على شركات الاتصالات عبئا إضافيا لتتحفز وتدخل في هذا المجال وتطوير أفكارها وخططها لتستوعب حجم التغيير القادم، حيث أن هناك بعض الدول تعطى لمخدمي الاتصالات رخص بنكية من خلال الشراكات الذكية للافادة من اعتبار الجوال أحد أشكال الهوية المالية المعتمدة،mobile banking يمكنك الشراء به كوسيط يماثل الكروت الإتئمانية حيث يحوى الموبايل رصيداً يكفي عن التعامل المالي والنقدي المباشر. أيضا لابد من العناية بقطاع الحوسبة وهو قطاع يشهد تباطئا في النمو والتطور بالمواصفات العالمية، حيث أن العقول السودانية مازالت عاطلة وغير مستخدمة في تطوير برمجيات تدعم حاجة البلد الصناعية والتجارية الإدارية، كليات الحاسوب تخرج كميات ضخمة من مشغلين ومستهلكين، ونظم التدريس الجامعية لهذا القطاع تحتاج إلي ثورة في المناهج وطرق التدريس والأساتذة لتخرج أجيال من خريجي الحاسوب واعية ، منطلقة لتقديم أفكار جديدة تفيد البلاد، فلا يعقل أن يتخرج طالب الاتصالات والحاسوب بمعلومات عتيقة والعالم يمور حوله بتقنيات حديثة ومتجددة وهنا قد تفيد التجربة الفنلندية حيث يلزم نظام الترقي الوظيفي لقيادات قطاع الاتصالات والمعلومات بإعطاء 20 % من الوقت للتدريس في المؤسسات التعليمية ليحدث نقل للخبرات وفتح آفاق وتواصل بين المشغلين والمنظمين وبين جيل الغد من الطلاب . من العوائق التي تواجه قطاع الاتصالات وبصورة اكبر قطاع المعلومات أنه ظل حبيس السياسات والأفكار ولم يخرج للمواطن العادي حتى الآن أي من التطبيقات التي تفيده في حياته اليومية حيث لا خدمات حكومة الكترونية ولا تجارة الكترونية ولا تعليم الكتروني أو غيرها , الخبراء والتربويين و الأطباء متركزون في المركز ولا استفادة منهم في الولايات البعيدة رغم وجود اتصالات بسعات عريضة لكن لا تستخدم إلا للكلام و(الونسة) , ولا استخدام للحوسبة في عدد كبير من مكاتب المؤسسات سوي طباعة الورق ولعب الكوتشينة وقليل من البرامج الإدارية . في تقديري أن المهمومين بقطاع الاتصالات والمعلومات وخاصة وزارة الاتصالات والمعلومات الوليدة بقيادة الوزير الشاب د. يحي عبد الله تحتاج إلي وضع ترتيبات جديدة منها:- { عقد مؤتمر جامع لقطاع الاتصالات يؤمه واضعو السياسات و خبراء المعلوماتية ومشغلو الخدمة وصناع القرار ليضع خطوط عريضة للمسار الصحيح لتحديث السياسات ويقدم مقترحات عملية لتطوير الإفادة من الاتصالات لخدمة المجتمع، ويحدد العوائق والحلول والآليات المناسبة. { الاهتمام بالتواصل بين المشتغلين بصناعة الاتصالات والجهات الأكاديمية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية ومن ورائهم الطلاب لمزيد من الإعداد والتدريب لبناء أساس متين للدارسين في المؤسسات التعليمية. { تطوير بنية الشركات الاتصالات لتعمل في مجال المعلومات بصورة أكبر وبناء أجسام داخل الشركات تهتم بالتطبيقات واعتبار نشر التطبيقات جزء من الشهادات لخدمة نفاذ الاتصالات، وتوجيه المنافسة لمجالات أكثر افادة حيث إن الاندماج بين الاتصالات والمعلوماتConvergence صار أحد محددات النجاح في القطاع. { وضع معايير لمهنة الحاسوب وتطوير الشهادات ومعايير تدقيقها وقيام كيانات مهنية لمهندسي الاتصالات والالكترونيات والمبرمجين تهتم بتبادل الخبرات والمعايير والتطوير ويمكن الاشارة للتجربة الامريكية واقليميا التجربة المصرية من خلال جمعية مهندسي الاتصالات في اثراء المعرفة للمهندسين بما يجد. { دراسة تجربة تحرير سوق الاتصالات ومحاولة نمذجتها Modeling وتعميمها على القطاعات الأخرى, وبناء اقتصاد المعرفة { تحفيز المبادرات الناجحة ورعايتها وبناء حاضنات لها ودفع المشروعات مثل المدن التكنولوجية التي لترى النور من خلال خطة واضحة . { التفكير في كيفية استخدام الاتصالات والمعلومات لتقليل الفقر وبناء السلام الاجتماعي ودعم التعليم والصحة وتحفيز الشركات لتقييم مبادرات للمجتمع للمناطق المتأثرة بالحرب والنزاعات. { تشجيع البحوث في الاستخدام الايجابي للتقنية وتقليل الاستخدام السيئ للانترنت وادخال ثقافة المناعة بدلا من ثقافة المنع ، مع التفكير في محتوى سوداني جاذب للشباب. { وضع خطة للتعامل بين مؤسسات الخدمة العامة وبين مشغلي الاتصالات وشركات المعلومات لتقديم خدمات الحكومة الالكترونية بمعايير عالمية تغنى عند التعامل التقليدي والإلزام بتنفيذ أسس الرقم الموحد والتوقيع الالكتروني . إن التحدي الحقيقي في هذه الايام ليس هو التكنولوجيا وجلبها، لكن التحدي هو استخدامها فيما ينفع المجتمع والبلاد للنهوض والنمو بدلاً من النظرية القديمة التي نراها تزداد من حولنا في بلدان العالم الثالث .... بئر معطلة وقصر مشيد. مهندس اتصالات وباحث ماجستير في سياسات وتنظيم المعلومات والاتصالات