تشهد القاهرة تحركا دبلوماسيا ملحوظا في دول حوض النيل بعد اجتماعات وزراء الري لدول حوض النيل التي انعقدت في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا أواخر الشهر الماضي، فبعدما كان متوقعا أن تتحرك القاهرة في اتجاه الضغط على إثيوبيا التي تحرض باقي دول الحوض للتوقيع على الاتفاقية الإطارية لإعادة تقسيم المياه، ورأى المراقبون أن استضافة القاهرة أسياسي أفورقي، الرئيس الإريتري، الشهر الماضي، تأتي في اتجاه هذا الضغط على أديس أبابا، إلا أن زيارة كل من وزيري الخارجية والتعاون الدولي المصريين أبو الغيط وأبو النجا إلى أديس أبابا في الأيام الماضية ذهبت في عكس الاتجاه تماما، وأعلنت الخارجية المصرية أن الزيارة تأتي في إطار التطورات الأخيرة لموضوع المياه، وفى إطار مواصلة التنسيق المشترك لدعم العلاقات التجارية والاستثمارية التي تشهد بالفعل نمواً مطرداً، حيث زاد حجم الإستثمارات المصرية فى إثيوبيا إلى 1.1 بليون دولار فى أعقاب زيارة رئيس مجلس الوزراء المصري إلى أديس أبابا فى ديسمبر 2009، كما بلغت معدلات التبادل التجاري بين البلدين 200 مليون دولار خلال عام 2009. ومن المتوقع زيادة حجم التبادل التجاري إلى نحو مليار دولار خلال الأعوام القليلة المقبلة. وكشف وزير الخارجية المصري (أحمد أبو الغيط) عقب الزيارة عن أن المحادثات التي أجراها والوزيرة فائزة أبو النجا وزيرة التعاون الدولي المصرية مع رئيس الوزراء الإثيوبى مليس زيناوى ووزير خارجيته سيوم مسفن حول موضوع مياه النيل، أبرزت وجود توافق حول أهمية البناء على القواسم والمصالح المشتركة التي تربط بين كافة دول الحوض وبصفة خاصة دول حوض النيل الشرقي (مصر والسودان وإثيوبيا). وأشار أبو الغيط إلى أهمية التركيز على مشروعات التنمية لصالح شعوب دول الحوض دون الإضرار بأي منها، خاصة في ظل تأكيد الجانب الإثيوبى على أن سريان مياه النيل لمصر هي حق طبيعي، وأن الأهداف الإثيوبية في استخدام مياه النهر تركز على مشروعات توليد الكهرباء التي ستعود بالفائدة على كافة دول الحوض، ولا تؤثر على سريان مياه النهر إذا ما تم تنفيذها في إطار خطة للتعاون المشترك بين دول حوض النيل الشرقي. وقال أبو الغيط : إن الزيارة عكست، من جانب آخر، وجود تقارب في وجهات النظر بين البلدين في ما يتعلق بمختلف قضايا المنطقة وبالأخص مستجدات الشأن السوداني وأهمية مساعدة حزب المؤتمر الوطني والحركة الشعبية لتحرير السودان على تقريب وجهات النظر في ما يتعلق بالمسائل العالقة بينهما، علاوة على تطورات الأوضاع فى منطقة القرن الأفريقي وسُبل تحقيق السلام والاستقرار بها. وأضاف: إن المحادثات تناولت مجمل العلاقات الثنائية بين البلدين والقضايا الإقليمية والدولية ذات الاهتمام المشترك. من جانبه أكد رئيس الوزراء الاثيوبى (ميليس زيناوى) أن العلاقات المصرية - الإثيوبية قوية وصلبة وتمتد جذورها إلى عصور طويلة، مشدداً على أنه لا توجد هناك أي إمكانية لوقوع قلاقل بين البلدين. وقال زيناوى في لقاء خاص أذاعه التلفزيون المصري مساء أمس من أثيوبيا - إن العلاقة بين مصر وإثيوبيا أشبه بعلاقة الزواج التي لا تقبل الطلاق أبدا، إلا أنها تواجه أحيانا بعض التوترات، وتارة تسير بشكل طيب، لكنها على كل الأحوال قوية وصلبة وتمتد جذورها إلى عصور طويلة. وقال رئيس الوزراء الإثيوبي: (يجب أن نقر في البداية أن الاستفادة من مياه النيل ليست معقدة، ولا يعني استفادة دول المنبع من النيل خسارة لدول المصب مصر والسودان، ودول المنبع لن تخسر في حال استفادة دول المصب من المياه)، مؤكداً أنه لن يتم الإقرار إلا بالخيار الذي يرضي جميع الأطراف، والحل الوحيد لمشكلة مياه النيل هو الحل الذي يرضي جميع الأطراف وليس من الصعب إيجاد هذا الحل، مشيراً إلى أن مياه النيل تستخدم لغرضين أساسيين، الأول هو توليد الكهرباء، والثاني هو الري. وأوضح: (أما النسبة لتوليد الكهرباء فإن السدود التي يتم بناؤها في دول المنبع لن تضر بمصلحة مصر والسودان، ولكن على العكس فإن بناء السدود في إثيوبيا سيعود بالنفع على مصر والسودان، بداية سيتم التخلص من الطمي الموجود في سدود مصر والسودان، لأن بناء سدود في إثيوبيا يعنى حصول دول المصب على ماء دون طمي). وأردف: (بناء السدود في إثيوبيا يعنى خفض عملية الإطماء في مصر والسودان، وأيضا عدم تفاوت حجم تدفق المياه على مدار العام، وسيكون المعدل ثابتاً، فلن يكون هناك فيضان في الصيف، ولن يكون هناك نقص في المياه في فترة الجفاف، وفى حال توليد الكهرباء في إثيوبيا سيكون بمقدور مصر والسودان شراء طاقة رخيصة من إثيوبيا، والأمر نفسه ينطبق على توليد الكهرباء في تنزانيا وأوغندا). وأوضح رئيس الوزراء الإثيوبي زيناوي: (أما بالنسبة لمسألة الري فإن مشاريع الري هي التي تؤثر على حصة المياه، بينما توليد الكهرباء لا يؤدي إلى نقص المياه، الشيء الوحيد الذي يقلل المياه هو الري). وأكد أن الري في إثيوبيا ودول المنبع الأخرى محدود للغاية، لأن نسبة الأراضي الزراعية في هذه الدول صغيرة جدا، والسودان وحده هو الذي لديه مساحة غير محدودة من الأراضي الزراعية القابلة للري، وإذا ما أردنا زيادة كفاءة مشاريع الري في دول المنبع والمصب يمكننا القيام بكل مشاريع الري الضرورية في إثيوبيا دون الإضرار بمصالح مصر والسودان على الإطلاق، موضحاً: إن كل ما نحتاجه هو زيادة كفاءة الري بنسبة 10% وهذا سيكون كافياً جدا، مشيراً إلى أن هناك حلاً واحداً فقط لمشكلة نهر النيل، هو الحل الذي يرضى جميع الأطراف ويراعى مصالحهم دون تمييز، فإذا كان هناك أي طرف خاسر فلا يمكن أن نصل إلى حل. ورداً على سؤال بشأن الإصرار على توقيع الاتفاقية الإطارية دون أن ترضي جميع الأطراف، أجاب زيناوي: (لأننا وصلنا إلى مرحلة متقدمة وأصرت مصر والسودان على موقفهما من هذه المسألة، أنه يتعين على دول المنبع الالتزام باتفاقية عام 1929، واتفاقية 1959، وإذا ما استعرضنا اتفاقية 1959 نجد أنها تقول إن مياه النيل يتم توزيعها بين مصر والسودان دون ترك أي حصة للدول الأخرى، وهذا ليس مفهوما يلبي جميع مصالح جميع الأطراف). وقال زيناوي إن مصر والسودان أصرتا على أنه يتعين علينا القبول بمبادئ اتفاقية 1959، وقامت الحكومة الإثيوبية في عام 1959 بإعلان رفضها لهذه الاتفاقية لأنها استثنت أثيوبيا، ولم تعطها أي لتر من المياه، موضحاً أن التوقيع على الاتفاقية الإطارية من دول المنبع لها أكثر من مغزى، فهي في المقام الأول بمثابة إعلان لدول المنبع في التوصل إلى حل يرضي مصالح جميع الأطراف، كما أنها تعني أيضا عدم رضاء هذه الدول بالوضع الراهن وباتفاقيتي 1959 و 1929. وأشار إلى أن الاتفاقية تعد إعلانا عن التزام دول المنبع بحل جديد يرضي ويلبي مصالح جميع الأطراف، مؤكداً ومجدداً أن دول المنبع ليست في جدول أعمالها نية للاستفادة على حساب مصر والسودان نهائيا. وحول وجود نوايا لدى دول المنبع ببيع مياه النيل لمصر والسودان، قال زيناوي: (إثيوبيا لم تفكر أبدا في بيع المياه إلى أية جهة ما، ومياه النيل تتدفق من أثيوبيا إلى مصر منذ ملايين السنين، ونحن نريد استخدام جزء من هذه المياه، ولن نقوم ببيع أي مياه لأي جهة حتى وإن كنا في غير حاجة لها، ولن نطلب من مصر أبدا شراء مياه النيل). وعن التعاون في مسألة الاستخدام الأمثل لتقليل الفائض من مياه النيل بمثابة حل يلبي مصالح جميع الأطراف، قال: (إن الحل الذي يرضى جميع الأطراف يتعلق بشكل كبير بمسألة الاستخدام الأمثل لتقليل الفائض في المياه، وما أقترحه أن أثيوبيا لا تعطى الأولوية للري، وأن تعطى الأولوية لمجال توليد الطاقة).وأشار زيناوي إلى أن هناك بعض السياسيين الحكماء في مصر يوافقون على إقامة إثيوبيا للسدود، والبعض الآخر لا يوافق على إقامة أي سدود على الإطلاق ويطلبون من الدول عدم تمويل مشاريع بناء السدود في إثيوبيا.وشدد زيناوي على أن بلاده لم تطلب مساواة حصتها من ماء النيل بحصة مصر، وقال: إننا نعلم أن مصر بحاجة إلى مياه للري أكثر من أثيوبيا، لذلك فإنه من غير المعقول أن نطالب بهذا الأمر، لكننا طالبنا فقط ببناء قدر كاف من السدود لتوليد الطاقة ومياه تكفي لري الأراضي الزراعية.وحول وجود التزام إثيوبي بأن ما تقوم به من مشاريع لن يؤثر على حصة مصر من مياه النيل، قال زيناوي: (مستوى حصة مصر والسودان الحالية من مياه النيل 100 %، وإذا قلنا إن هذه الحصة لن تتغير يعني أننا لن نحصل على لتر واحد إضافي من المياه). وأضاف: (إن هناك حلاً عملياً يسمح لإثيوبيا بالاستفادة من ماء النيل، دون الإضرار بمصلحة مصر، وذلك من خلال الاستخدام الأمثل للمياه وتقليل الفائض، حيث يمكننا من ذلك توفير 14 مليار متر مكعب من المياه). وردا على سؤال بشأن تحديد عام واحد لمصر والسودان للتوقيع على الاتفاقية الإطارية، قال زيناوى: (لقد علقنا تنفيذ الاتفاقية التي وقعت عليها خمس دول، والدولتان المتبقيتان في طريقهما للتوقيع، ولكن سنبدأ تنفيذها بعد عام، وإذا انضمت مصر والسودان للاتفاقية سنبدأ التنفيذ سويا في آن واحد، وإذا لم توقعا، ستبدأ الدول الخمس تنفيذ الاتفاقية وتدخل في مفاوضات مع مصر والسودان على اتفاق مختلف). على صعيد متصل أكدت مساعدة وزير الخارجية المصري للشؤون الإفريقية، السفيرة مني عمر، أن هناك تنسيقاً وتشاوراً مستمراً بين بلادها ورواندا تجاه الأوضاع الإقليمية ذات الاهتمام المشترك، وذلك من خلال آلية التشاور السياسي بين البلدين، وقال هانئ رسلان ل (الأهرام اليوم) إن لتحركات المصرية تستند إلى الإدراك الكامل بأن التعاون هو السبيل الوحيد لاستغلال الموارد المائية للحوض لصالح الجميع بدون استثناء، ولذا فإن الخلاف الحالى يجب التعامل معة بالصبر وسياسة النفس الطويل، التي تتمسك بالحقوق بحزم، مع التأكيد على سياسة الحلول الوسط التى تلبي مصالح الجميع، ولكن ذلك يتم بدعوة هذ الدول بالحسنى إلى العودة للتفاوض من أجل تحاشي نسف وإهدار كل الجهود التى بذلت طوال عدة عقود، مضيفاً أن الرفض الحازم لاتفاقية عنتيبي لا يجب أن يحمل معه طابعا صراعيا أو يفتح الباب لتدهور العلاقات مع دول المنابع، وإنما يترك الباب مفتوحاً للعودة إلى التفاوض بهدوء وبشكل سلس، موضحاً أن الدولتين الرافضتين للاتفاقية ليستا في موقف الضعف، وأن هذه الإتفاقية لا تلزمهما في شيء ولن يعترفا بها، كما ان دول المنابع فى حالة مضيها في مواقفها الحالية لن تستفيد شيئاً، وأن ذلك سيؤدي إلى توقف مشروعات المبادرة المشتركة، وسوف تدافع كل من مصر والسودان عن حقوقهما المائية بكل الوسائل الدبلوماسية والقانونية، مبينا أن مصر في هذا الإطار أوفدت الوزير عمر سليمان مدير المخابرات المصرية الى اوغندا ووزير المالية الدكتور يوسف بطرس غالي الى بوروندي، من أجل تخفيف الضغوط التي تمارسها اوغندا واثيوبيا على بوروندي للتوقيع، في محاولة من القاهرة لاستباق انضمام طرف سادس إلى الاتفاقية، وقال إنه فى الوقت نفسه كان وزير الرى المصري الدكتور نصر الدين علام في الخرطوم للتنسيق مع السودان بخصوص اجتماعات أديس أبابا، وعلى مسار مواز كانت مصر تواصل جهودها واتصالاتها مع الدول المانحة للحصول على تأكيدات وتعهدات بعدم الموافقة على تمويل أي مشروعات مائية في حوض النيل من شأنها التاثير سلبا على حصتي مصر والسودان، مضيفاً أن هناك تقدماً معقولاً على هذه الجبهة، حيث كانت مجموعة المانحين الدوليين المرتبطين بالبنك الدولى قد أعلنت منذ وقت سابق أنها لن تقوم بتمويل أي مشروعات في مناطق توجد بها نزاعات، وبالتالي أكدت بشكل صريح أنها لن تمول مشروعات في حوض النيل ما لم يكن هناك اتفاق يشمل جميع الدول الأعضاء. وفى الإطار ذاته حصلت مصر على تأكيدات من الصين بأنها لن تمول أي مشروعات تهدد المصالح المائية لمصر، مشيراً إلى توجيهات الرئيس مبارك بالمشاركة في اجتماعات أديس أبابا رغم تحفظ بعض المؤسسات المصرية المعنية بأمر حوض النيل وتوصيتها بعدم المشاركة، وقال إن مصر تعطي الفرصة كاملة لسياسة التهدئة والعودة إلى التفاوض والتعاون واستراتيجية الكسب والمنفعة للجميع وليس لطرف على حساب آخر، فإذا لم تفلح هذه السياسة فإن مصر غير معنية بهذه الاتفاقية، ولن تعترف بها ببنودها الحالية. مضيفاً أنه سيكون واضحاً فى هذه الحالة أن تصرفات دول المنابع هي تصرفات ذات طابع سياسي تغلب عليه روح الخصومة والعداء وتهديد الآخرين، وهذا بطبيعة الحال لن يكون مقبولا، وسوف يقتضي التوقف وإعادة تقييم الأوضاع بشكل شامل لاعتماد السياسات والإجراءات الضرورية للدفاع عن المصالح المائية التى تقع في القلب من استراتيجية الأمن القومي المصري.