تفتح الدولة المجال واسعاً للعمالة الأجنبية، وتحتضن في كل يوم وافدين جدد في القطاع العام، وتيسر السبل وتذلل الصعاب لأصحاب العمل في استيراد عمالة من الخارج ليزاحموا المواطن في لقمة العيش دون حسيب أو رقيب، وحملة شرسة موجهة ضد العامل السوداني مفادها أنه يتقاعس عن أداء عمله ولا يؤدي واجبه إلا تحت الضغط الإداري، يقودها البعض من أجل مكاسب رخيصة؛ هي عوامل فتحت الأبواب واسعة للعمالة الأجنبية وجعلتها تسيطر بصورة مخيفة وتتغول على أغلب الوظائف وأجبرت العمالة الوطنية المؤهلة على مغادرة البلاد والانزواء بعيداً بعد أن فقدوا فرصهم في العمل وبعد أن تيقنوا أن كفاءتهم ما عادت معياراً للمنافسة. وإذا ما تتبعنا هوية العمالة الأجنبية الموجودة في السودان نجد أنهم جاءوا من مختلف البلدان مثل الهند وباكستان وبنغلاديش والفلبين، وهؤلاء يعملون في قطاعات مختلفة من المستشفيات وقطاع المباني وبعضهم يعمل في المنازل وأيضاً نجد العمالة الصينية التي سيطرت على قطاعي البترول والإنشاءات وهناك مجموعات قدمت من (لبنان وسوريا) وهؤلاء تخصصوا في تجارة الأطعمة والعمل في الفنادق، ثم دول الجوار الذين صاروا يتدفقون في الآونة الأخيرة بصورة شبه دورية بطرق شرعية وغير شرعية، ومن المعروف أن هذه الدول المحيطة بنا تتسم بكثافة سكانية عالية وظروف معيشية صعبة لذلك يلجأون إلى السودان بحثاً عن ظروف أفضل حالهم كحال (الغريق الذي يتعلق بقشة) هذه القشة قد تنقذ بعضهم لكنها تغرق المئات من العمالة المحلية لأن سوق العمل في السودان لا يستوعب كل هذه العمالة الوافدة إلا إذا كانت على حساب المواطن، ومن المؤكد أن هؤلاء لهم تأثيرهم على تركيبة العمل بالبلاد وسيسهمون بطريقة أو بأخرى في زيادة حجم البطالة والفقر، وقد ورد في دراسة أجريت مؤخراً أنه خلال السنوات الثلاث الماضية شهدت البلاد أعلى معدل للعمالة الوافدة مما أدى إلى ضيق فرص العمل للعامل المحلي، والقائمون على الأمر يعزون هذا الحجم الكبير من العمالة الوافدة إلى الانفتاح الذي تشهده البلاد وتدفق الاستثمارات والمستثمرين، لكن واقع الحال يحكي عن خلل كبير وفجوة عميقة بين سوق العمل وحجم العمالة الوافدة. وإذا سلمنا بأن هذه العمالة القادمة من الخارج لها من القدرات الخارقة التي لا تتوفر في العمالة المحلية التي تنقصها الكفاءة والتطور؛ فلماذا لا يوفر القطاعان العام والخاص فرص التدريب والتطوير لهم ليصبحوا في مصاف تلك العمالة الوافدة؟ لماذا لا يتم تأهيل عامل وطني مؤهل واستخدامه في قطاعات الدولة المختلفة؟ علماً بأن هناك مبالغ خرافية تدفعها بعض المؤسسات العامة والخاصة للأجنبي مقارنة مع الأجور الزهيدة التي يتلقاها العامل المحلي، نصف هذه المبالغ من شأنها أن ترتقي بالعامل المحلي وتغطي تكاليف التدريب والتأهيل ويُدفع منها راتب مجز له، إذا توفرت لدينا القناعة بالعمالة المحلية، ومن المؤسف أن نجد هناك عمالة وافدة لا تتوفر لديها القدرات والمؤهلات الكافية وعلى الرغم من ذلك يستمرون في العمل لسنوات طويلة ولا أجد تبريراً لذلك، لكن الأرجح أن بعض المؤسسات تستعين بالأجانب كواجهة يعتبرونها مشرقة في سوق العمل وربما خلقت لهم سمعة حسنة بين المؤسسات الأخرى لمجرد أنهم أجانب، وهنالك في بعض المؤسسات من تتملكهم عقدة الأجنبي ويعطونه ثقتهم المطلقة مهما كان أداؤه وفي حالة انسحابه وإعلانه الفشل يستبدلونه بأجنبي آخر! كما لا يفوت علينا أن التدهور المريع الذي شهدته الخدمة العامة مؤخراً نتيجة اختلاف معايير الاختيار فيها أدى إلى حدوث خلل في معظم المؤسسات التي سارعت لاستقدام الأجنبى قبل أن تفكر في العامل الوطني المؤهل الذي أقصته لدواع لا علاقة لها بمعايير الكفاءة. هذا الحديث لا يقلل من إيجابيات العمالة الأجنبية فهي موجودة في كل دول العالم بما فيها العالم الأول لكنها بنظام دقيق جداً لا يتضرر منه المواطن فمعظمها ينحصر في الأعمال الصغيرة والهامشية إذا صح التعبير، والذين يحظون بالوظائف الرفيعة من الأجانب في تلك الدول لا شك أنهم على قدر عال جداً من المستويات الفكرية والفنية ويسهمون في دعم اقتصاد هذه الدول بالأفكار النيرة أو من خلال رسم سياسات تساعد في الدفع بعجلة النماء في المؤسسات المختلفة علاوة على ذلك فإن معظم هذه الدول هي دول صناعية وبترولية تختلف فيها سوق العمل عن السودان لهذا نحن نحتاج إلى دراسات دقيقة جداً في هذا الصدد حتى نستطيع من خلالها أن نحدد العمالة الأجنبية التي نحتاجها في كافة القطاعات والجرعات المناسبة لهذه العمالة وتوقيتها وتوزيعها على النهج الذي يمكننا أن نرتقي بمستوى الأداء ونستفيد من الخبرات الوافدة في تأهيل العامل المحلي. وجود فائض من هذه العمالة مع الاستمرار في الاستقدام أدى إلى نشوء مشكلات عدة من ضمنها التحديات الأمنية ولأن هناك عدداً من العمال الوافدين تحول بعضهم من الكسب والعمل المشروع إلى ممارسة أعمال مخالفة للنظام والأخلاق، والضلوع في ارتكاب العديد من الجرائم من سرقة وتزوير وخطف ودعارة وقتل أسهم في ذلك الكم الكبير من العمالة الأجنبية، التي ليس لها احتياج أو عمل محدد، متروكة من قبل المسؤولين تلتقط رزقها حيث وجدته وبكل طريقة ووسيلة ممكنة، وهو ما شكل عبئاً اقتصادياً واجتماعياً وأمنياً علينا، فبلادنا أصبحت سوقاً مشرعة الأبواب لأياد أجنبية من كل لون، ومؤخراً بدأت الدولة تنتبه لبعض الأخطاء التي ارتكبتها جراء عدم التنظيم الذي لازم دخول واستقدام الأجانب إلى البلاد فقامت بتلك الحملات التي نشاهدها على فترات ضد الوافدين في محاولة لتنظيم وجودهم وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وهذه الحملات تعتبر غير كافية لأنها جاءت متأخرة وعلى فترات متباعدة، وعلى العموم أن تأتي متأخراً خير من ألا تأتي، ونحن نطالب وندعو كل أجهزة الدولة المعنية من وزارتيْ العمل والداخلية وكل الأجهزة المناط بها الأمر لتكثيف الجهود لتنظيم وجود واستقدام وبقاء العمالة، بحيث يغادر كل من ليس مرتبطاً بعمل محدد لدى مستقدمه، واتخاذ إجراءات تنظم استقدامهم وفرض رقابة صارمة على السماسرة ومكاتب استقدام الأجانب والأخذ بعين الاعتبار المؤهلات والكفاءة وإعطاء المواطنين الأولوية. نريد لكل المواطنين أن يجدوا فرصهم الحقيقية داخل البلاد ونستفيد منهم في شتى الأعمال إن كانت صغيرة أو من تلك التي تحتاج إلى مؤهلات عالية كما نريد أيضاً الاستقرار المثمر للعمالة الوافدة التي تسهم بحق في دفع البلاد إلى الأمام دون المساس بحقوق المواطن، فبالله عليكم ما احتياجنا إلى عمالة أجنبية تعرض خدماتها على قارعة الطريق؟ وما حاجتنا لعمال نظافة وسائقين وعمال بناء ومزارعين والبلاد مليئة بالسواعد الخضراء ومليئة أيضاً بالكفاءات والمتميزين في شتى المجالات؟ أردت أن أقول إن العمالة المحلية ما زالت بخير فقط تحتاج إلى تحفيز وحد معقول من الأجور المجزية وبيئة صالحة للعمل. وقبل كل هذا أن نثق فيهم من جديد.