نعتقد أن الذين قالوا إن السودنة - التي تمت بعد انتخابات الحكم الذاتي التي أُجريت في نوفمبر 1953م- خضعت للاعتبارات العائلية والقبلية والجهوية مخطئون. وربما حدث ذلك ولكن في حدود ضيّقة، ونعتقد أن المعيار الأساسي لتقلُّد الوظائف كانت الكفاءة وإلا ما ظللنا حتى وقتٍ قريب نتحدث عن أن الخدمة المدنية في السودان كانت هي الأفضل على مستوى العالم العربي وإفريقيا. ولم يكن مقصوداً بالخدمة المدنية تلك التي كانت موجودة خلال الحكم الثنائي فقط، وإنّما كان مقصوداً معها أيضاً الخدمة الوطنية بعد السودنة، وحتى وقت قريب، فقد كانت في العهدين الاستعماري وبعض العهد الوطني على درجة من الكفاءة وكان يُضرب بمستواها الرفيع المثل في المنطقة من حولنا. وهناك من انتقدوا السودنة من زاوية أخرى هي أن نصيب الجنوبيين بالذات من الوظائف كان قليلاً للغاية وإلى درجة أنه لا يُذكر قياساً إلى عدد الوظائف التي شغلها الشماليون، وذلك صحيح ولكن لم يكن لسببه علاقة بالشماليين وإنّما كان السبب هو الاستعمار الذي نشر تعليماً أكثر في الشمال وأهمل الجنوب تقريباً، وعزْله ليس من الشمال فحسب، وإنما من العصر. وقد اضطلع مؤتمر الخريجين الذي تأسس عام 1938م بإنشاء المدارس الأهلية وساعده في ذلك المواطنون واقتصر ذلك على الشمال فقد كانت امكانات المؤتمر شحيحة وما كان الاستعمار ليسمح له بتشييد المدارس في الجنوب. ولذلك كان عدد المتعلمين الجنوبيين في ذلك الوقت من النصف الأول من خمسينيات القرن الماضي قليلاً للغاية مما انعكس على عدد المستوعَبين في الخدمة المدنية بعد السودنة. لقد كانت السودنة بصفة عامة انجازاً كبيراً وهاجمها البعض في زمانها لاعتبارات سياسية بالدرجة الأولى وحتى الذين انتقدوها في ما بعد كان البُعد السياسي في مقدمة دوافعهم لذلك الانتقاد. لكن هذا لا يعني أنه لم تكن لذلك الجيل الفذ من السياسيين - الذين حققوا السودنة والجلاء والاستقلال - أخطاء.. لقد كانت لهم أخطاؤهم (وهي طبعاً غير مقصودة) ومنها أن اهتمامهم وانشغالهم بمسألة الجنوب لم يكن كما ينبغي ومنها كما قال أحدهم أنهم تخلوا عن مؤتمر الخريجين لصالح الأحزاب التي كانت طائفية ولو أنهم أبقوا على المؤتمر مستثمرين شعبيته الجارفة وتأهيله لقبول كل السودانيين من الشمال والشرق والغرب والجنوب، لكان حالنا العام من حيث الاستقرار والتنمية والديمقراطية أقرب إلى حال الهند مثلاً. وأخيراً نعتقد أن السودنة كانت انجازاً يستحق وأن بعضنا ظلموا ذلك الإنجاز.