"ورطة الشعبي" ليس من المتوقع أن تحظى التعديلات الدستورية المجازة من البرلمان بالرضا الذي تحتاجه لكن مطالب منها أن تقود إلى الاستقرار السياسي الخرطوم – عبدالرحمن العاجب قطعت (بدرية) قول كل خطيب، وهنا نقصد بدرية سليمان رئيسة اللجنة الطارئة للتعديلات الدستورية، التي أفلحت بدورها مع بقية أعضاء لجنتها في إنجاز المهمة التي أوكلت إليهم، وبعد أن أودعت لجنتها التعديلات الدستورية الخاصة بالحريات البرلمان، الذي لم يتردد هو الآخر، وقام بتمريرها بالأغلبية أمس الأول (الثلاثاء) في مرحلة العرض الأخير، وأسقطت ذات اللجنة عددا من مواد مشروع التعديلات بمبررات مختلفة، وقالت إنها كتبت بطريقة غريبة على اللغة الدستورية والقانونية، إضافة إلى أن بعض التعديلات حملت تفاصيل مكانها القوانين وليس الدستور. وأقرت مخرجات الحوار الوطني التي أجيزت من قبل الجمعية العمومية أو المؤتمر العام للحوار إجراء بعض التعديلات الدستورية، وأجيز جزء منها في يناير الماضي، بينما ظل الجزء الآخر يقبع في قبة البرلمان وسط جدل كثيف بين حزبي المؤتمر الوطني والشعبي، وتباينت وجهات نظر الحزبين في التعديلات المثيرة للجدل، في وثيقة الحريات التي شملت حرية اعتقاد الأديان والمذاهب والأفكار، وحرية المرأة في الزواج، وحرية التعبير بأشكاله المختلفة. ويقول حزب المؤتمر الشعبي إن التعديلات الدستورية المتصلة بوثيقة الحريات، ليست رؤيته وإنما مخرجات للحوار الوطني واجبة النفاذ، ولكن رغم حديثه المتكرر وتمسكه بمواقفه أجاز البرلمان التعديلات الدستورية. وكان حزب المؤتمر الشعبي، قال في وقت سابق، إن التعديلات الدستورية مكان الاختلاف ليست مقترحات جديدة ولكنها مخرجات للحوار اتفقت عليها اللجان الست، وأكد وقتها أن شرط مشاركته في الحكومة المقبلة إجازة التعديلات باعتبار أنها متفق عليها، وألمح إلى إمكانية الانسحاب من الحوار، وطالب الشعبي وقتها الحكومة بالالتزام بما وعدت به وتنفيذ المخرجات، وقطع الشعبي بأن هذه المخرجات واجبة النفاذ وليست رؤية للشعبي، وقال إنه يتحدث عن مخرجات تم التوافق عليها وأجمع حولها من مؤتمر الحوار وأصبحت اتفاقا سياسيا وعهدا وطنيا، ولكن فيما بعد تغير موقف الشعبي إلى النقيض، وأجاز في مؤتمره العام الأخير المشاركة في حكومة الوفاق الوطني، وأعلن تمسكه بالحريات التي اعتبرها خطاً أحمر، وفيما بعد تراجع الشعبي إلى أكثر من ذلك عقب اللقاء الذي جمع بين الدكتور علي الحاج الأمين العام للحزب ورئيس الجمهورية، والذي أعلن الحاج عقبه مشاركة حزب المؤتمر الشعبي في حكومة الوفاق الوطني قبل إجازة التعديلات الدستورية، الأمر الذي يشير إلى وجود صفقة سياسية بين الحزبين والرجلين جعلت الشعبي يتراجع عن مواقفه المتشددة. وبعد أن أجاز البرلمان التعديلات الدستورية، دافعت بدرية سليمان رئيسة اللجنة الطارئة للتعديلات الدستورية عن ما أنجزته لجنتها من إسقاط عدد من المواد التي تسلب صلاحيات جهاز الأمن الاعتقال والتنصت ومحاربة الجريمة العابرة، وتحصره في مهام جمع المعلومات وتحليلها، ورفضت بدرية اتهامات حزب المؤتمر الشعبي بتزويرها التعديلات المتفق عليها في الحوار الوطني، وقالت إن الاتهامات لا تعنيها في شيء، وأوضحت في مؤتمر صحفي بعد إجازة التعديلات أن اللجنة كانت تمارس عملها بكل شفافية ووزعت أوراقها لكل الأعضاء والخبراء الذين استعانت بهم، متضمنة مقترح التعديل الأصلي ورأي لجنتها والمختصين، وأكدت أن لجنتها حرصت على توضيح النصوص المقترحة للتعديلات وما تم التداول فيه ثم أخذ آراء العضوية، وأضافت: "لا يوجد شيء يمكن تسميته تزويرا، والبينة على من ادعى، ويمكن أن أقاضي من يتهمني بالتزوير". وأقرت بدرية بتوسيع صلاحيات جهاز الأمن والمخابرات الوطني بجعله (قوة نظامية قومية)، وإضافة بندين لم يردا في مقترح التعديلات، هما مسؤوليته عن جرائم تجارة البشر والجرائم العابرة، بجانب منح الجهاز صلاحية (انتهاك الخصوصية في حالات التفتيش والإجراءات الصادرة من القضاء والنيابة العامة والسلطات الأمنية فيما يمس الأمن القومي)، وأشارت إلى استحداث محاكم خاصة لجهاز الأمن، أسوة بالجيش والشرطة، التي اقتضتها الممارسات الفردية لمنسوبيه والتي تحسب بأنها مخالفة للدستور، وأفادت بأن ممارسات جهاز الأمن في الاستدعاء والاعتقال مضبوطة بالقانون الذي يعطي حق حبس الشخص (30) يوماً ابتداءً، ويجوز لمدير الأمن أن يجدده ل(15) يوماً، وتجديد الحبس لثلاثة شهور كأقصى مدة ويحول المتهم للمحاكمة، مع جواز لجوء المتهم لمقاضاة الأمن حال تجاوز الفترة المحددة، وأوضحت التعديلات أن جهاز الأمن يعمل تحت إشراف رئيس الجمهورية، ويقدم تقارير وبيانات استماع أمام لجان خاصة بالبرلمان. وفي الضفة المغايرة، قال حزب المؤتمر الشعبي، إن الحريات في السودان قُبرت، في أعقاب إجازة البرلمان ملحق التعديلات الدستورية التي منحت جهاز الأمن صلاحيات واسعة، وطلب الحزب من رئيس الجمهورية عدم التوقيع على نسخة التعديلات المجازة باعتبارها تخالف توصيات الحوار الوطني. وقال كمال عمر الأمين السياسي للمؤتمر الشعبي في تصريحات صحفية، إن التعديلات الدستورية جاءت مخيبة للآمال، وأشار إلى أن النص الذي يمنح جهاز الأمن صلاحيات واسعة بذريعة العمل على مكافحة مهددات الأمن القومي، دخيل على مخرجات الحوار وغير متفق عليه في الجمعية العمومية، وأضاف قائلاً: "ما جاءت به لجنة التعديلات من إضعاف للنصوص التي تحمي حرية الأشخاص وتحيلها إلى القوانين، وتعمل في ذات الوقت على ترقية صلاحيات جهاز الأمن دستورياً، هي سنة غير معمول بها في كتابة الدساتير". وأكد كمال عمر أن التعديلات جعلت جهاز الأمن ذا سلطة دستورية كبيرة، بينما أمن الأشخاص وسلامة حريتهم وخصوصيتهم أدنى مرتبة في الحماية الدستورية، وأضاف "مما يعني بمنطق الدستور والحقوق الأساسية والمواثيق الدولية التي وقع عليها السودان أن ذلك إضعاف متعمد للحقوق الأساسية"، وأوضح أن اللجنة بإحالتها للمواد المتعلقة بحرية الأفراد في المادة (29) إلى القوانين، جعلت حرية الإنسان نهباً للتشريعات الاستثنائية دون حماية دستورية، وتابع "النص في مخرجات الحوار كان أكثر متانة لحماية الحرية، بينما النص الجديد ينتهك حق الحرية ويجعله خاضعاً للقانون". وقال عمر إن التعديلات المجازة من البرلمان ليست من وثيقة الحوار الوطني ولا تمت بصلة لا بمخرجاته ولا لأي حوار مقصود به حماية الحريات، وتابع: "أستطيع القول إن الحريات قُبرت، والأمل الوحيد على الرئيس البشير باعتباره ضامناً لتنفيذ مخرجات الحوار، ألا يوقع على النسخة المجازة من البرلمان باعتبارها جاءت مخالفة لمخرجات الحوار". وأعلن الأمين السياسي لحزب المؤتمر الشعبي أن الموقف السياسي لحزبه سيعلن عقب التدارس فيما جرى، وسيكون ملائماً مع التطورات السياسية والوفاق الوطني، مؤكداً أن الشعبي يبحث عن الخيارات السياسية التي تحفظ السلام ووحدة البلاد دون المساس بعلاقاته مع الأحزاب السياسية، وقال إن الجميع مطالب باتخاذ موقف وطني مؤيد للحريات، بما يحفظ وحدة البلاد. واعتبر كمال عمر التعديل المجاز نسف مخرجات الحوار وأتى بملحق جديد لا يعبر عن الملحق الموقع من اللجنة التنسيقية العليا للحوار والمجاز في الجمعية العمومية، وتساءل عمر: "من أين أتت اللجنة بالجرأة الفظة لنسف مشروع تعديل مودع بواسطة رئيس الجمهورية الضامن للحوار؟"، وقال إن اللجنة اعتمدت في مرجعيتها على علماء لا علاقة لهم بالدستور ولا بالحوار، مشيراً إلى أن التعديلات اتفاق سياسي يمثل قوى الحوار، بينما البرلمان الذي أجازها يمثل المؤتمر الوطني في غالبه، وأوضح عمر أن التعديل في مادة (حق الحياة والكرامة الإنسانية) فتح الباب أمام تشريع لعقوبات سياسية مما يعني ضياع حق الحياة والكرامة الإنسانية للأشخاص، وتابع: "أصبح حق الحياة والكرامة الإنسانية متروك لأي نظام سياسي يأتي بالتشريع الذي يرضي طموحاته". وإبان الخلافات الحادة التي نشبت بين حزبي المؤتمر الوطني والشعبي بشأن التعديلات الدستورية، نصحت حركة (الإصلاح الآن) التي يتزعمها الدكتور غازي صلاح الدين العتباني المؤتمر الشعبي بالتركيز على التعديل الدستوري المتعلق بالقضايا السياسية والدستورية الملحة، حتى لا تأخذ بعض الأطروحات القانونية الأخرى حيزاً أكبر ويستغلها آخرون للتشويش، وقالت الحركة وقتها إن التزام النظام بالمخرجات والتعديلات الدستورية سيدفع قوى سياسية أخرى ممانعة للانخراط في النسخة الثانية من الحوار، لكنها عادت ورأت أنه في حال رفضت الحكومة الالتزام بالمخرجات وتلكأت في تنفيذها، سيؤدي ذلك في حده الأدنى إلى انتهاء الحوار دون مشاركة القوى السياسية الممانعة أو خروج بعض المشاركين في حده الأعلى، وفي الحالتين يكون الحوار فشل في الوصول إلى صيغة إجماع وطني وتحقيق الانتقال السياسي.