تطرقت عرضاً في مقالي الأسبوع الماضي إلى سيرة أستاذ الرياضيات الحاصل على الدكتوراه من جامعة هارفارد، ثيودور كيزنسكي، الذي أزعجه التطور المستمر في زحف المنتجات التكنولوجية وسيطرة التكنولوجيا الحديثه على حياة الإنسان، وبلغ به الانزعاج غايته حتى استحال أمره إلى حالة مرضية دفعته إلى هجران منزله الفاخر في مدينة بوسطن وانتقل إلى كوخ خشبي في منطقة نائية من ولاية مونتانا حيث عاش حالة منعزلة حياة الإنسان الأول. ثم شرع بعد ذلك في استهداف من حسب أنهم يقفون وراء صعود التكنولوجيا وتلويثها لحياة الإنسان، وكان سبيله إلى ذلك تصنيع قنابل وطرود بريدية متفجرة وإرسالها إلى شخصيات مختارة مما تسبب في قتل وإصابة عدد من الأبرياء. وتصادف وبعد يوم واحد فقط من نشر المقال أن انطلق مواطن أمريكي آخر يحمل اسم سيزار سيوك يصنّع قنابل صغيرة الحجم ويرسلها في شكل طرود مفخخة عن طريق البريد إلى عدد من الرؤساء السابقين مثل بيل كلينتون وباراك أوباما وشخصيات أخرى مثل عضو الكونغرس ماكسين ووترز والممثل العالمي روبرتو نيرو، فأشاع الفزع في طول أمريكا وعرضها. وقد تم القبض على هذا المعتوه أول أمس واتضح أنه من المشايعين المتعصبين للرئيس دونالد ترامب وسياساته اليمينية، وأنه قصد بحملته تلك استهداف منتقدي ترامب والمتصدين له في الحياة العامة. وربما كانت حالة القلق والتوتر التي انتابتني نتيجة لهذه الإبتلاءات الأمريكية سبباً لترددي في فتح الطرد الذي وصل إلى منزلي في لندن عن طريق البريد قبل أيام، إذ لم أكن أتوقع أن يصلني طرد بريدي من أية جهة، فتركته جانباً متوجساً لبعض الوقت، حتى وافاني المولى بعطفه ورعايته وواتتني الشجاعة لفتحه، فلما فعلت وجدت كتاباً ضخماً عريضاً ثقيل الوزن يحمل اسم (النفير)، وتحته في الغلاف الخارجي عبارة: (كنا وين ووصلنا وين؟)، فلم أفهم من ذلك شيئاً. ولكنني شعرت بشيء من الاطمئنان عندما قرأت تحت تلك العبارة عبارة أخرى تُقرأ: (موية، طريق، مستشفى.. والنهضة خيار الشعب)! وبعد أن قلبت صفحات من الكتاب، الذي ظننته لأول أمري طرداً مفخخاً كوني من المنتقدين الدائمين للرئيس دونالد ترامب والداعين لإسقاطه، وجدت فيه ما أعجبني وأسعدني وأرضاني وسرّ بالي! لا أعرف حتى الآن من الذي تفضل مشكوراً فبعث إليّ عبر الفيافي والبحار بذلك الكتاب الذي تبيّن لي أنه سِفر توثيقي مصوّر يعكس مشروعات نهضة شمال كردفان. وهذا السفر يعكس في مفتتحه ما يسمى ب (وثيقة النفير) التي تواضع عليها أهل كردفان الغراء وتواثقوا عليها مع حكومتهم الولائية، وتشتمل على رؤية ورسالة تعاهد الكرادفة على تحقيقها كاملة مكتملة من أجل بلوغ أهداف النهضة التي ابتغوها لولايتهم. وقد وقفت من خلال ذلك كله على برامج الإصلاح المؤسسي وما يتصل به من تشريعات وسياسات وهياكل وخطط لبناء القدرات، إلى جانب خطط الإصلاح الاقتصادي وتنمية الزراعة والثروة الحيوانية والغابية، ومشروعات البنية التحتية ونظم تمويلها، والخدمات المجتمعية والإحياء الثقافي. الميزة الأساسية لهذا السفر هي أنه يوثق توثيقاً دقيقاً لمجمل الانجازات التي حققها نفير تنمية كردفان حتى اليوم على أرض الواقع، بحيث يستحيل واقعياً أن يمتنع أي إنسان يطلع على الحقائق الموثقة والمصوّرة ألا يجاهر بالغبطة وألا يسعى بيديه وقدميه لكي يحيط هذه التجربة بفيض إعجابه وحبه، كونها تقدم الدليل الحي على قدرة إنسان السودان على توجيه طاقاته وقدراته في تنمية حياته وترقية مجتمعه. تنظر في الكتاب فترى صور مدارس القش والرواكيب، ثم تعيد النظر كرتين فترى في مكان القش والرواكيب عشرات المدارس الحديثة الفخيمة البناء والمعدة بأفضل التجهيزات والمُعينات. وكذا المستشفيات وغيرها من مراكز الخدمات والتنمية الاجتماعية والثقافية الأخرى على اختلاف أنواعها وتخصصاتها. تتحدث الأرقام المدعومة بتقارير المنظمات الدولية فتقول إن فجوة المياه في الريف الكردفاني قد تقلصت بفضل برامج النفير من 65% إلى 27%، وأن مدارس القش تقلصت كذلك من 52% إلى 21%، وأن 90% من تلك المشروعات تم تنفيذها في المناطق الريفية، وياله من إنجاز! ملحمة نفرة كردفان تستحق التوثيق بلا ريب، وقد أحسن الذين قاموا بإصدار ذلك السِفر صنعاً. وأظن أن الذين تخيروا أولئك النفر ممن نهضوا بذلك العمل التوثيقي قد أحسنوا الصنع أيضاً. إذ كان أكثر ما لفت نظري وأنا أطالع تلك الصفحات ال165 الجميلة الصقيلة الأسلوب الباهر غير التقليدي في الاختيار والتسجيل والتعبير، لكأنك تنظر إلى لوحات إبداعية مدهشة وتطالع صفحات ثقافية وفنية دفاقة. حتى الإحصائيات والأرقام الجافة وجدوا لها ملاذات من فن وإبداع. لله درّهم، ووفق كردفان، أم خيراً برة، إلى ما يُحب ويرضى.