1. زارتني صورة الجنرال مالك عقار بجثته الضخمة، ونظراتهِ القاسية، وصوته الأجش ونحن نستقبله ذات يومٍ ما في منزل السفير بالأردن (عَمّان)، وهو حين ذاك يشغل منصب والي ولاية النيل الأزرق، وبعد انقشاع مناخ الريبة الذي ساد حين حُضُوره، تجاذبنا أطراف الحديث، بعد أن أشاع الراحل الفنان علي اللحو جوّاً لطيفاً غير الذي كان.. فتجرّأتُ وسألته عن الأخ إبراهيم عبد الحفيظ أبرز المسؤولين في تلك الأيام بالنيل الأزرق (أيام الدعوة الشاملة) في تلك المناطق البعيدة الخصبة بالموارد والإنسان، فقال لي وقد جحظت عيناه وارتفع صوته: إذا وجدته الآن سأطلقُ رصاصة ًعلى رأسه! هذا يوضِّح بجلاء خُطُورة التّغيير الاجتماعي الذي أحدثه إبراهيم عبد الحفيظ في تلك الفترة الوجيزة، مِمّا استدعى أن يُقابل هذا العمل بالرصاص وبطريقةٍ مُميتة إذا أمكنه ذلك. 2. اهتمتْ الإنقاذ في بداياتها بالعمل الأمني والاستخباري، حيث مثّل إخفاء هويتها الحَقيقيّة أولويةً قُصوى حُشِدَت لها كوادر مُميّزة لصيانتها والسهر عليها. ثم جاء زمن التعبئة العسكرية لدحر التّمرُّد في منتصف تسعينات القرن الماضي، فتُرِكَ ميدان التغيير الاجتماعي الذي يمثِّل صلب المشروع الحضاري، تقوم به فئةٌ قليلةٌ ضاعت مع زحام المشاغل الكُبرى والناس. حيث اكتفى التّغيير بمظاهر التّغيير في عدد المساجد ومُرتاديها ومظاهر الاكتظاظ بها في أيامها الزاهيات في رمضان والعشر الأواخر منه، بينما اهتمت المُنظّمات الطلابية بسوق الانتخابات الكاسد والذي لم يُفرَّغ إلا تشاحناً بغيضاً بين مُكوِّناته. أمّا المُؤسّسات الشبابية، فإنّها من المُؤكّد قامت بأعمالٍ رائعةٍ، لكنها دُون الطُموح ولم تَستوعب الأعداد الهَادرة بين الصبايا والفتية الذين يمثلون أكثر من 60% من شعب السودان. ثُمّ انشغل الجميع مِمّن يهتمون بتفاصيل المشروع الحضاري بهُمُوم الدولة وشواغلها المُثقَلة بحصارٍ خارجي وحروبٍ أهليةٍ طويلةٍ، ثُمّ انفصال وضغوطٍ دوليةٍ وإقليميّةٍ. كل هذا المناخ المهزوم وَزّعَ جُهُود القائمين على أمر الدولة. بين هذا وذاك، أُنجِزَتْ بعض المَهام الوَطنيّة الكُبرى مثل الحوار الوطني الذي أوقفَ الاعتراض الداخلي وفَتَحَ الأفق السِّياسي لوفاقٍ وطنيٍّ أو عقلٍ اجتماعيٍّ جديدٍ. ثُمّ كل هذا وذاك، تضاءَلَ أمام الأزمة الاقتصادية الخانقة. 3. صبايا سمراوات وفتيةٌ سمر، خرجوا للشوارع دفعةً واحدةً من مُدنٍ مُختلفة، بعيدون عن العاصمة القومية والقصر الرئاسي وقيادة القوات المسلحة والمطار، لا ينتمون لا إلى يسار ولا إلى يمين، يُعبِّرون بشعارٍ غير مُكتمل وإقصائيٍّ في أحيان كثيرة (تسقط بس). الصبايا بدون مساحيق تجميل ولا حُمرة على الشفاه والخدود أو دهانات (قدِّر ظُرُوفك)، وكذلك الفتية بسواعد قوية وبناطلين (سيستم) وهذا يعني بلغة الشباب أنّه (أي البنطلون) ناصل قليلاً. وبعد انحسار خجول للشتاء في السودان الذي لم يستمر إلا أياماً قليلة وعادت بعده الأجواء إلى سُخُونتها، انتبهت الأحزاب السياسية الشائخة أو الحائرة أو الهزيلة لثورة الشباب، وحاولت سرقتها، فانتبه الأغلبية من المُحتجين الشباب بحسِّهم الثوريُّ البريء أنّ ثمة من يُحاول الوثوب، وتزامن ذلك مع انتباهة مُتأخِّرة للحكومة لمعُالجة جبهة الاحتجاجات بشكلٍ سياسيٍّ أكثر مما هو أمنيّ فحسب. 4. حين أطلق الرئيس الراحل جعفر نميري بعد المُصالحة الوطنية 1977 للإسلاميين حُرية الحركة والتفاعل مع الجماهير، أنجز (الإسلاميون) مشروعات اقتصادية ناهضة وتعمّقوا في تربة العمل الاجتماعي وأثمروا ثمراً يانعاً لصالح مشروعهم. وبعد انتفاضة أبريل 1985، برزت منظمات شبابية تعمل في التّغيير الاجتماعي مثل مُنظّمة شباب البناء ورائدات النهضة، وفي العمل الثقافي مثل مُنظّمة نمارق للآداب والفنون. هذا الإرث العريض المُميّز لم يُستفد منه استفادةً مرجوّة في التّغيير الاجتماعي إبان الحكم وحدثت فيه شُرُوخاتٌ واسعةٌ إثر تحديات الدولة الاقتصاديّة والاجتماعيّة والأمنيّة. 5. سؤالٌ عالقٌ بعد الاحتجاجات: ثمّ ماذا بعد؟. هذا السؤال كبيرٌ ولا يُختصر بالشعارات التي يهتف بها المُحتجون سواء مع أو ضد. المهم، فإنّ احتجاجات الصبايا والفتية لها ما بعدها. أما ما تمخّض عنها من حراكٍ سياسي من اليَسار أو اليَمين أو من فئاتٍ مهنيةٍ أو غيرها؛ فهو يَستحق رؤيةً سياسيةً عاجلةً من الحزب الحاكم وحلفائه للتعامل الجاد والموضوعي والمفيد مع الحِراك. 6. تصدّى الرئيس برسائل مُتفاوتة للفئة الشبابية التي تصدّرت مشهد الاحتجاجات، وأعتقد أنّه بعث برسائل أخرى مُتعدِّدة لتحريك القائمين على أمر الشباب في الحكومة والحزب والحركة، الذين كانوا قد تركوا فراغاً واسعاً في زمن حسّاسٍ أُحرزت فيه نقاط غالية كُسبتْ بها جولات وجولات. كل ذلك سبّب تشوهاً في المشهد الإعلامي، خَاصّةً وسائل التواصل الاجتماعي التي عمّت فيها الفوضى والكراهية بين أفراد المجتمع الواحد. في تقديري، إنّ أولى الحلول في التعامل بموضوعيةٍ مع الغضب الشبابي هو إشاعة الحُرية؛ حَيث لا عاصم اليوم بعد انتشار التقنية الضخمة إلا الحرية التي تُتيح الانفتاح والإبداع والتّنافس الحُر والشفافية. قد تجد صبياً لم يتجاوز العاشرة بعد من عُمره، يشجِّع برشلونة بحرارةٍ ولا يهمّه أنّ النادي الكبير ربما يدعم إسرائيل أو غيرها، وهذا مبحثٌ آخر، ولن يسمح لنفسه أن يسمع كلمةً عن أمجاد الكرة السودانية في سبعينات القرن الماضي. هذا الجيل يعتقد اعتقاداً راسخاً أنّ السودان بلدٌ واسع الموارد يجب أن يكون في مكانٍ لائقٍ. لا يَهمّه تعقيدات السِّياسَة وقذارتها التَّاريخيَّة، لذا كان شعار المُحتجين بسيطاً لا يُراعي أيِّ ترتيبات داخليةٍ أو خارجيّةٍ. هذه الحرية تورِث الإبداع والتّجديد والتّنافس الذي تتضاءل معه أمراض النفس كالغيرة والحسد والأنانية لفاقدي الموهبة والقُدرة على العطاء. 7. صبايا وفتية الاحتجاجات أكثر جُرأةً على التجريب. جيل العولمة أغلبه ذكيٌّ ومنفتحٌ وفي ذات الوقت عَنيدٌ ومُغامرٌ، بعضه لا يستهويه التاريخ، حيث يعتبر أنّ بعضه مُعطِّلٌ للتقدم وبالطبع يضحي قليل التجربة والخبرة، لكنه واسع الطُموح والغِيرة الوطنية حسب تصوُّره الذي لا تحدُّه حُدُودٌ. دعوة الفريق صلاح قوش مدير جهاز الأمن والمخابرات لمحاورة شباب الاحتجاجات تحتاج لاستعدادٍ مُميّزٍ لمُعالجة القضايا من جوانب كثيرة. يلزمها علماء في الاجتماع والفلسفة والدين والتنمية السِّياسيّة ومراكز بحوث وحداثيين يدركون لغة العصر والشباب. أستطيع القول إنّ الجهاز قَادرٌ على قيادة هذا الحوار، لكنه يحتاج إلى لافتةٍ أكاديميّةٍ أو مدنيّةٍ. المُهِم أن يُجرى الحوار بنديّةٍ واحترامٍ لرغبات الشباب، حيث المدخل الصحيح يؤدي إلى النتائج الصّحيحة. هذا الفعل الثوري الكَبير تحت مظلة الحوار ليس هدفه تخفيف التّظاهرات أو إنهاء الحِراك أو إشعاله، إنّما يَعمل لأجل السُّودان حتى لا يسقط في بُؤر التّشتُّت والهزيمة والانقسام والخوف والتلاشي. 8. لا ل(تسقط بس) ولا ل(تقعد بس) ولا ل(تصبُر بس). إنّ من أبرز سِمَات بعض هذا الجيل أنّه لا يُطيق الصّبر، لكن في ذات الوقت له حساسيةٌ عاليةٌ لسرقة هبتهُ لصالح أجندة تصفية الحسابات والصراعات الأيدولوجية المُختلفة أو من أجل إدخال بعض الأحزاب غُرف العناية المُركّزة وأخذ حقن الكورتيزون لاستنئناف الحياة.