(1) شهدت الخرطوم نهاية الأسبوع المنصرم انعقاد أول مؤتمر اقتصادي دولي من نوعه منذ سقوط النظام السابق، دعا له المعهد الملكي البريطاني للعلاقات الدولية الشهير ب"تشاتام هاوس"، غير أن المؤتمر الذي انعقد الخميس الماضي بمشاركة رئيس وزراء الحكومة الانتقالية الدكتوررعبد الله حمدوك، ووزير المالية الدكتور إبراهيم البدوي، واجه العديد من الانتقادات التي شكّكت في خلفيته وأهدافه وتمويله ومن يقف وراءه، واتهامات بأنه يخدم أجندة خفية، وضربت حوله سرية شديدة وجرى بعيداً عن الأعين وراء الكواليس في غياب تام للشفافية، فما هي حقيقة ما جدث بالفعل، وما مدى جدية وصدقية محاولات الترويج لشيطنة هذه الفعالية بلا دليل سوى الرغبة في ذلك عن سابق قصد وتصميم، وهل اجتهد مطلقو هذه الشكوك في تحري المعلومات الصحيحة في مظانها؟. (2) ما كنت لأحفل ببعض التوضيحات هنا حول هذه الملابسات، فلست هنا بصدد الدفاع عن منظمي هذه المبادرة فهذا شأنهم، لولا ما يقتضيه كوني كنت شاهد عيان وطرفاً مشاركاً في سلسلة هذه الحوارات التي لم يكن مؤتمر الخرطوم سوى تتويجاً لثلاث ورش عمل سبقتها في الربع الأول من هذا العام، وثانياً لولا أن هذا اللغط حال دون كثيرين من الإطلاع على مضمون ونتائج هذا الجهد المقدر في معالجة قضايا الاقتصاد السوداني المزمنة التي أقعدت بالبلاد، لا سيما وأن أسئلة الاقتصاد الملّحة تمثّل أهم تحد يواجه حكومة الفترة الانتقالية، وتقف بمثابة كعب اخيل الترتيبات الانتقالية الذي لا يهدّد صمودها فحسب، بل يضع استقرار البلاد وتماسكها على المحك. والأقدار وحدها هي التي جعلت اثنين من أهم المشاركين في سلسلة حوارات أصحاب المصلحة التي دعا لها "تشاتام هاوس" هم في دفة قيادة حكومة الفترة الانتقالية، رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك الذي كان المدير والميسّر لهذه الحوارات، وووزير المالية الدكتور إبراهيم البدوي الذي قدّم أوراقاً مهمة في تشخيص جذور الأزمة الاقتصادية وخيارات معالجتها. (3) ففي الثامن من شهر نوفمبر من العام الماضي، أي قبل أكثر من شهر من إندلاع الحراك الشعبي في ثورة ديسمبر المجيدة، تلقيت رسالة من الدكتور أليكس فاينز، رئيس برنامج أفريقيا في "تشاتام هاوس"، يدعوني فيها بصفتي الشخصية كرئيس تحرير صحيفة إيلاف، المهتمة بالشأن الاقتصادي، ضمن ثلاثين شخصية من الخبراء السودانيين والدوليين المؤثرين، للمشاركة في سلسلة اجتماعات مائدة مستديرة عالية المستوى، تحت قاعدة "تشاتام هاوس" المعروفة التي تسمح بالتداول العام ونشر ما يجري من حوارات ومعلومات داخل أنشطتها شريطة ألا تنسب للقائل بعينه. وأفصحت الدعوة من أن الهدف من سلسلة الحوارات هذه، هو دعم عملية صنع القرار نحو تحسين الآفاق الاقتصادية للسودان، من خلال النقاشات الواعية والبناءة والخبيرة، بما يساعد أن يولد المشاركون معًا تفكيرًا جديدًا حول خيارات السياسة والإصلاحات الهيكلية التي يمكن أن تساعد السودان على بناء دولة أكثر ازدهارًا واستقرارًا وشمولية. وأشارت إلى أن الانضمام إلى هذه السلسلة من الحوارات وجهت للمدعوين بسبب خبرتهم المقدرة، وشمل المشاركون شريحة واسعة من كبار ممثلي الحكومة، المعارضة، رجال الأعمال، معاهد السياسات، الأوساط الأكاديمية، المجتمع المدني والمنظمات الدولية. (4) من المهم الإشارة هنا أن الدعوة لسلسلة هذه الحوارات حول سبل إنعاش الاقتصاد السوداني من قبل "تشاتام هاوس" لم تحدث صدفة ولا اعتباطاً، بل هي نتاج مسعى رسمي للحكومة البريطانية في هذا الصدد كما تشير معطيات معلومة، وأعيد في هذا الخصوص إلى الإذهان هذا الخبر الذي نشرته صحيفة "التيّار" في 19 نوفمبر 2018 " في لقاء مغلق مع مجموعة من الناشطين السياسيين بمقر إقامته بالخرطوم، أكّد سفير دولة أوروبية كبرى أنّ إرهاصات انهيار وشيك للاقتصاد السوداني بدأت في الظهور، لكننا لن نسمح بذلك ولو تطلب الأمر ضخ أموال إلى السودان بصورة مباشرة". وقال السفير الأوروبي بحسب صحيفة التيار " إن الحلول الاقتصادية المطروحة حاليًا لا تبدو "منقذة" لكن استمرار تماسك الدولة السودانية في وجه الأزمة الاقتصادية لم يعد مهمة السودان وحده، لأن المجتمع الدولي يتشارك تبعات ما قد ينجم من انهيار الاقتصاد السوداني وتأثيره المباشر على الشعب، والاستقرار في السودان والأقليم على حد سواء"، وفي الواقع لم يكن هذا السفير الأوروبي سوى السفير البريطاني لدى الخرطوم عرفان صديق. (5) والانشغال البريطاني على وجه الخصوص بعواقب انهيار الاقتصاد السوداني المحتمل ما لم يتم تداركه بسياسات وتدابير ناجعة، كان وراء زيارة الوزيرة المكلفة الشؤون الأفريقية في بريطانيا هاريت بالدوين، في السادس من أغسطس 2018، وكانت هي الأولى من نوعها لمسؤول بريطاني رفيع الى السودان منذ ثلاث سنوات، وحسب بيان صدر من السفارة البريطانية عشية وصولها إلى الخرطوم "أن الوزيرة بالدوين ستجري محادثات في الخرطوم حول التزام المملكة المتحدة ب "تحقيق الاستقرار والإصلاح الاقتصادي في السودان"، مضيفاً أنها "ستناقش كيفية دعم المملكة المتحدة أولويات الحكومة في احراز تقدم بشأن تخفيف عبء الديون الخارجية وإصلاح النظام الاقتصادي لوضع الأسس لنمو اقتصادي مستدام في المستقبل". وقالت الوزيرة بالدوين "أريد أن أناقش كيف يمكن للمملكة المتحدة أن تدعم السودان لمعالجة بعض من أكبر التحديات التي يواجهها لخلق الأمن والاستقرار الاقتصادي الضروريين لمواجهة الفقر، ولتحفيز النمو الاقتصادي الذي سيسمح للسودان بأن يصبح أحد شركاء المملكة المتحدة بشكل أفضل مستقبل". وانخرطت الوكالة البريطانية للتنمية الدولية بشكل خاص تبعاً لذلك الاهتمام الرسمي للملكة المتحدة في بذل مساعي حثيثة مع أطراف محلية ودولية لدعم جهود الإصلاح الاقتصادي في السودان. (6) وبالفعل عقد أول اجتماع مائدة مستديرة لسلسلة "حوارات أصحاب المصلحة في السودان"، بغرض التوصل إلى "خيارات لتحقيق الاستقرار الاقتصادي الانتعاش والنمو الشامل" في ديتشلي بارك هذه، بأكسفورد شاير، بالقرب من لندن في الأسبوع الثالث من يناير 2019، واستمرت يومين، وكان من بين المشاركين فيها د. عبد الله حمدوك، مدير سلسلة الحوارات، د. إبراهيم البدوي، د.عبد الله عثمان التوم، أستاذ الاجتماه بجامعة إيرلندا الوطنية، والقيادي في حركة العدل والمساواة، المهندس خالد عمر يوسف "سلك" الأمين العام للمؤتمر السوداني، د. الشفيع خضر، بروفيسور الطيب زين العابدين، د. حامد التيجاني الأستاذ بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، د. سليمان بلدو، بروفيسر محمد صالح أستاذ الاقتصاد السياسي للتنمية بجامعة روتردام، ومن رجال الاعمال وجدي ميرغني، وأحمد أمين عبد اللطيف، ومو إبراهيم، فيما قاطع ممثلو الحكومة السودانية السابقة الذين كانوا يزمعون المشاركة الاجتماع دون إبداء أسباب، وكان من بينهم محافظ بنك السودان المركزي حينها د. محمد خير الزبير، ووزير الدولة بالمالية د. مسلم الأمير، ووزير الدولة بالخارجية أسامة فيصل. وشارك أيضاً في الاجتماع الأول ممثلين للبنك الدولي، وبنك التنمية الإفريقي، بنك التجارة والتنمية لدول كوميسا، والوكالة البريطانية للتنمية الدولية، المفوضية الاقتصادية لإفريقيا التابعة للأمم المتحدة، وبرنامج إفريقيا باتشاتام هاوس. ومن أهم نقاط الجدل التي أثيرت في اللقاء الأول، الذي انعقد في غمرة تواصل الاحتجاجات الشعبية بزخم كبير، حول إمكانية قصر النقاش حول الأزمة الاقتصادية على جوانب فنية محضة بمعزل عن سياقات تأثير العامل السياسي، وكان الرأي الغالب وسط المشاركين السودانيين أنه لا يمكن إحداث إصلاح اقتصادي بدون تحقيق تغيير سياسي. (7) وعقد اجتماع المائدة المستديرة الثاني في الأسبوع الثالث من فبراير 2019 في مدينة بشفتو الإثيوبية، وشارك أغلب الحاضرين للاجتماع الأول، كما أنهت الحكومة السابقة مقاطعتها وشاركت في هذا الاجتماع، حيث مثلها محافظ البنك المركزي السابق د. محمد خير الزبير، ومكي محمد عبد الرحيم من كبار مسؤولي وزارة المالية، وانضم أيضاً للمشاركة في هذا الاجتماع من رجال الأعمال أسامة، داؤود، أنطوني حجار، إيهاب إيراهيم رئيس مجلس الأعمال السوداني الأمريكي، الفريق الفاتح عروة الرئيس التنفيذي لزين السودان، د. محمد محجوب هارون، والسيدة عابدة المهدي. كما انضم للمشاركين من المنظمات الدولية، ممثلو الاتحاد الأوروبي، ومكتب المبعوث الأمريكي للسودان. وعقد اجتماع المائدة المستديرة الثالث في نيروبي في آواخر شهر مارس 2019، بمشاركة معظم الأعضاء في الاجتماعين السابقين، ما عدا محافظ بنك السودان السابق، وانضم إلى الاجتماع الثالث الدكتور أمجد فريد الطيب، ترنيم سعيد، وممثلين لمبعوث الأممالمتحدة للسودان، كما شارك أيضاً السفير البريطاني لدى الخرطوم عرفان صديق. (8) وبعد عشرة أيام من إنتهاء الاجتماع الأخير في سلسلة حوارات أصحاب المصلحة، حدث سقوط النظام السابق في 11 أبريل 2019، وانتصار الثورة السودانية الثالثة، وحسب برنامج هذه السلسلة فقد كان مقرراً كما ورد في الدعوات إليها في نوفمبر الماضي أنيعقد مؤتمراً ختامياً في نهاية أبريل 2019، غير أن مكانه وزمانه بالتحديد لم يكن محسوماً، وجرت محاولة لعقد المزتمر في 25 يونيو الماضي، إلا أن الأجواء التي خلّفها فضّ الاعتصام بالقوة قاد الى تأجيله، ليعقد في الثالث من أكتوبر، وهذه المرة وقد أصبح الميّسر الأساسي لسلسلة "حوارات أصحاب المصلحة السودانيين" الدكتور حمدوك رئيساً للوزراء، ود. إبراهيم البدوي المشارك الأساسي وزيراً للمالية، ولتصبح التوصيات والمقترحات التي توصلت إليها هذه الحوارات التي كانوا في قلبها بين أيديهم للنظر في أمر تطبيق ما يرونه مناسباً في معالجة أمر الاقتصاد السوداني المعلول. (9) وتبقى كلمة أخيرة في هذا الخصوص، فإن مؤتمر تشاتام هاوس الذي انعقد في مطلع أكتوبر الجاري في الخرطوم، لم يكن سرياً على الإطلاق، فقد كانت الدعوات لغير المتحدثين الرئيسيين، متاحة للتسجيل في موقع المعهد منذ عدة أسابيع، كما تم توزيع دعوات للتغطية لكل وسائل الإعلام السودانية والأجنبية في الخرطوم، وكانت الوثيقة التي تمن فيها تحرير خلاصات اجتماعات المائدة المستديرة الثلاثة متاحة للحضور، باللغتين العربية والإنجليزية، وكذلك متاحة للجميع في موقع المعهد الملكي الإلكتروني، وخلافاً لقاعدة "تشاتام هاوس" التي أشرنا إليها آنفاً فقد كانت كل المداولات التي جرت في مؤتمر الخرطوم مفتوحة ومتاحة للاقتباس ونسبتها لقائليها. وفيما يتعلق بتمويل منظمة هيومانتي للمؤتمر فلم تكن سرية بل كانت مثبتة في جدول الأعمال المنشور على الموقع، والذي تم توزيعه أيضاً للحاضرين، مع الإشارة إلى أن هذه ليست هي المرة الأولى التي تموّل فيها نشاطاً معنياً بالسودان، ذلك أن أغلب اجتماعات المعارضة السودانية بأطيافها المختلفة التي كانت تعقد في أوروبا وغيرها كانت تتم بتمويل من "هيومانتي يونايتد"، أما الأهم من ذلك كله فإن ما خرجت به سلسلة هذه الحوارات بين أصحاب المصلحة من مقترحات وتوصيات ليس لها أية صفة إلزامية لقبول الحكومة الانتقالية بها، ولا ما يلزم بتنفيذها، وتبقى مجرد جهد علمي مشترك واجتهاد خبراء لمساعدة الاقتصاد السوداني على الخروج من المأزق الذي يواجهه. وبعد كان هذه إيضاحات لا بد منها، لإيراد الوقائع كما هي دحضاً للأساطير التي أحادت بهذا المؤتمر، وكان الأنفع ان نستفيد من هذا الجهد في نقاش مضمون الحوارات، وليس الانشغال بالقشور، ونرجو أن يتاح لنا ذلك في قت لاحق، وأنوّه إلى ان صحيفة "إيلاف" نشرت في هذا العدد والسابق نص التقرير الحتامي لهذه الحوارات.