جاء في الحديث الشريف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن موسى عليه السلام وقف خطيباً في بني إسرائيل، فسُئل أي الناس أعلم؟ قال: أنا، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه، فأوحي الله إليه إن لي عبداً بمجمع البحرين هو أعلم منك قال موسى: يا رب وكيف لي به؟ فقال تأخذ معك حوتاً بمكتل، فحيثما فقدت الحوت فهو ثم كان إصرار موسى عليه السلام شديداً في سبيل العلم لذا ذهب في رحلة البحث عن العلم حتى ولو أمضي حقباً، ويقولون إن الحقب هو العام «أي السنة» ويقول البعض أنه ثمانون عاماً.. يجد موسى عليه السلام الرجل الصالح العالم ويمضي معه كالتلميذ ليتعلَّم منه وهو رسول من أولي العزم.. وعند هذه القصة المعروفة لدى الجميع استوقفتني آخر الأحداث، حيث وصلا إلى قرية بخلاء أهلها، وهما جياع رفض أهل القرية إطعامهما وتصف الآيات القصة في سرد قرآني بديع «فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما، فوجدا جداراً يريد أن ينقض فأقامه». ما يسترعى الانتباه في هذه القصة «الجدار الذي يريد أن ينقض» الإرادة صفة خاصة بالأحياء وفي الأحياء تخص الإنسان؛ فالجدار ليس له إرادة في أن يقف أو في أن ينهار، والأمر الثاني أن الآية جاء كل أفعالها بصيغة المثنى إلا في حالة إقامة الجدار جاءت بصفة الفرد «فأقامه».. الجدار ذو الإرادة كان تحته كنز لأيتام، والقوم الظالمون أن انقض الجدار فسيجدون الكنز ويحرمون منه أصحاب الحق الأيتام. هذه القصة سرحت بأفكاري بعيداً، وقارنت بينها وبين حالنا الآن، وتخيلت أن الجدار ذي الإرادة ليس ذلك الجدار الذي نراه يقف، إنما وضعت الشعب السوداني موضع الجدار، فهو الجدار صاحب الإرادة المقصودة، وهو الذي بيده أن يقف أو ينقض.. ليت حكامنا تأسوا بموسى عليه السلام الذي ظنّ أنه أعلم الناس، وعاتبه ربه على قوله، فجعله رغم ما يحمل من علم تلميذاً مبتدئًا، وفي هذا درس لكل من يعتد بنفسه ويظن أنه في موقعه القيادي والريادي ليس هناك من هو أعلم منه، فلا يستمع لنصح ولا يقيم وزناً لرأي مهما كان سديداً.. خبراء الاقتصاد يصرخون حتى بح لهم الصوت ولا أحد يهتم، وخبراء الزراعة يرفعون ناقوس الخطر عن عجز في الغذاء ولا أحد ينصت إلى ما يقولون، وخبراء المياه يحذرون ويضعون الخطط لحصاد المياه لتفادي العجز المائي والذي يتصاعد عاماً بعد عام ولا أحد يهتم بما يقولون، ولا يُستدعي أحد من هؤلاء لتبيان صحة ما يقول، أو لدحض ما يدعي!.. وبين هذا وذاك تزداد إرادة جدار السودان للانقضاض، لينكشف الكنز الذي تحته للآخرين الطامعين فيه، الشعب بدأ اليأس يتخلله، والمعارضة تنتظر انقضاض الجدار على الجميع وتعمل على ذلك، أما النظام فلا يرى جداراً أصلاً ناهيك عن أن يريد أن ينقض.. وإقامة الجدار تقتضي أن يعمل الجميع، ولكن الشباب عاطل بعد سنين شقاء قضاها في الدراسة وتحصيل العلم، وأي دولة تلك التي لا يلعب الشباب في بنائها الدور الرئيس؟! وأي دولة تلك التي ترى معارضتها بعد أن أصابها العجز السياسي.. تقف موقف المتفرج العاجز الذي أصابه الشلل ويتخذ أسلوب عليّ وعلى أعدائي سياسة بعد أن بلغت قياداتها من العمر عتيا. وأي بلد ذلك الذي رغم الأزمات التي دفعت جداره أن ينقض ونظام حكمه يتملكه الوهم بأن كل شيء على ما يرام، رغم كل الأزمات القاتلة التي تحاصره.. سياسيًا يبدو الشعب السوداني كأولئك الأيتام أصحاب الكنز الذي حفظه لهم الرجل الصالح بإقامة الجدار وأجره على الله، وخبراء السودان بمختلف تخصصاتهم يمكنهم إقامة ذلك الجدار الذي يحفظ للسودان أعظم الكنوز، كنز العزة والأخلاق التي بدأت تتردى وتنحدر إلى درك سحيق ولن يتخذوا عليه أجراً.. والنظام أخذ من أهل تلك القرية البخل في إتاحة الفرص للآخرين للعمل، بفضل التمكين، والصالحون يقدمون ما ينفع الناس دون أن يتخذوا أجراً على ما يقدمون تماماً كما فعل الرجل الصالح تجاه الجدار ومن يقرأ آراء ما يكتبون في الصحف والندوات العلمية يدرك هذا، ولكن النظام يلعب دور أهل القرية البخلاء، لا يهمه سقوط الجدار كما لم تفرح القرية إقامته، وهذا اتضح عند انقضاض جدار الجنوب والتصريحات الرسمية على أعلى المستويات التي تلت سقوط جدار الجنوب!! الدمار الممنهج الذي يجري على السودان ما الهدف منه؟! هل يا ترى يتم على نهج الرجل الصالح الذي خرق السفينة حتى لا يطمع فيها طامع؟!.. هل هو نوع من الاجتهاد؟ كلا ليس كذلك.. يا أهل السودان أن جدارنا يريد أن ينقض فإن لم نقمه فإن السودان سيقول لنا «هذا فراق بيني وبينكم».