يواجه السودان مشكلة كبيرة في تدهور مستوى التعليم فيه مع ضعف إمكاناته المادية والبشرية المستخدمة في التعليم، ومع أن الأمر مرتبط بالتدهور الشامل في مجالات الحياة كلها؛ إلا أنّ الكارثة التي تدمر الأمة تأتي من تدهور التعليم فيها وما من أمة نهضت في العالم بقوة اقتصادها أو عدد سكانها إلا إذا كان التعليم هو وسيلتها وهدفها فقد سُئل مسؤول في كوريا عن سر نهضتها السريعة وتفوقها في مجالات الحياة فأجاب: التعليم وليس غير التعليم. إنّ ايّ مجتمع مهما كانت رحابة موارده لا يمكن أن يحقق عائدًا استثماريًا جيدًا من التعليم ما لم يكن المجتمع قد حدد هُويته وذاتيته وعرف نفسه، وما لم يكن للتعليم القدرة على تقويم أدائه بتجرد وموضوعية تؤديان إلى الحكم الصحيح على مدى صلاحيته وجودته وحسن مردوده من خلال النماذج المتخرجة في هذا التعليم لأن نوعية المتخرجين تمثل الدليل العملي على النتائج الإيجابية والسلبية إذ منها ينطلق التعليم في قياس إنجازاته وعوامل قوته وضعفه ومواضع خلله وأخطائه التي تنعكس في ممارسته ونتائجه؛ لأن التعليم كما يقول علماء التربية: صناعة تهدف ضمن أهدافها إلى إنتاج أعداد من القوى البشرية التي تعمل في قطاعات الحياة المختلفة ومجالات الإنتاج المتعددة باقتدار وكفاءة عالية؛ وهو لذلك يحتاج الى تهيئة أفضل العناصر التي تعطي إنتاجًا من القوى العاملة في المجتمع على درجة عالية من التعليم والتربية والكفاءة. ولأن هذا النوع من التعليم يواجه ظروفًا مختلفة ومشكلات في النوعية والجودة أحيانًا؛ نجد التعليم بعيدًا عن أهدافه في التطوير والتغيير وترسيخ عقيدة الأمة وتوظيفها في الحياة وتزويد الطلاب بالمعرفة المتطورة والمفاهيم المتجددة والمهارات العقلية والبدنية التي تيسر لهم القدرة على الاستفادة من المعطيات الحضارية والعلمية.. لذلك كله فإن التعليم لا قيمة له إن لم يكن قادرًا على تنشئة الإنسان على الاستقلالية في التفكير والإبداع والابتكار والتفكير المنطقي والتصرف الحكيم زيادة على تعويد الناشئة وتدريبهم على العمل اليدوي باعتبار ما تقدم كله وسائل للمعرفة والثقافة ولا قيمة لتعليم لا علاقة بينه وبين مطلوبات التنمية الاقتصادية والاجتماعية وهو ما يحدث في تعليمنا على استحياء لأن هذا كله يرجع الى المفارقة والتناقض بين أهداف التعليم المعلنة والممارسات الحقيقية وبين الإمكانات المادية والبشرية الموظفة لذلك. على هذا سيظل التعليم ما لم تراجع صياغة خططه وأهدافه وبرامجه وشكلياته وتقليديته والقوى الموجهة له والمنتجة والعائد منه وغير ذلك؛ سيظل تعليمًا يعلم القراءة والكتابة في حدودها الأولية كما هو حادث وقد يزيد قليلاً فيعطي القدرة على قراءة الصحف اليومية والكتب المبسطة ويكون ناتج ذلك كله معاناة في الفكر وضعفًا في المعرفة وضحالة في الثقافة وعجزًا في الإبداع والابتكار والإضافة والتجديد لأن العلاقة بين التعليم والثقافة كما يقول الدكتور علي فخرو وزير التربية والتعليم الأسبق في البحرين «كالمعادلة الكيمائية التي تتفاعل في الاتجاهين فإن أهم مهام نظام التعليم المدرسي تمرس ورعاية الثقافة في نفوس الأجيال وصقل المواهب عندهم للمساهمة في انتاج هذه الثقافة فهل يقوم نظامنا التعليمي بهذا؟؟ وهل يثري ثقافتنا الذاتية وينميها ويساعد في حل مشكلاتها؟؟ إنّ توسيع فرص التعليم وانتشار المدارس وتوفيره للجميع أمر شكلي وكمي لا يكون على حساب نوعية التعليم وكفاءته وقدرته على اسعاد الناس بملاءمتهم بين الحياة وما تعلموه، وأهداف التعليم وواقعهم، فالصعوبة التي يواجهها التعليم تتمحور في جوانب عدة على رأسها كفاءة النظام التعليمي مع مردوده الفعلي في ضوء الأهداف المعلنة، بالإضافة الى مدى تناسب نظام التعليم مع البيئة التي يوجه التعليم إليها، وقبل ذلك كله وجود المعلم المدرب نظريًا وتطبيقيًا تدريبًا عاليًا افتقدناه بعد تشويه وتغيير مؤسسات التدريب العلية في «معهد بخت الرضا» العالمي و«معهد المعلمين العالي» في أمدرمان والمؤسسات التي ارتبطت بهما وبذكر هاتين المؤسستين التاريخيتين أقول :إن أفضل الخبراء الذين يمكن الاستعانة بهم في إعادة التعليم لسابق عهده هم من تخرجوا في هاتين المؤسستين أومن عملوا فيها معلمين ومؤلفين ومدربين وأغلبهم الآن في المعاش أو أوشكوا. يلاحظ أنّ عددًا كبيرًا من الطلاب يتخرجون في التعليم الثانوي والجامعي ولكنهم لا يحسنون الكتابة والقراءة ولا يملكون من المعرفة شيئًا فضلاً عن الثقافة ممن ندرّسهم الآن في الدراسات العليا والجامعة وبطبيعة الحال فهؤلاء لا ينتظر منهم أن يقدموا الخدمة المطلوبة لمجتمعاتهم وبلادهم ، وإذا كنا نجد فيهم بعض أصحاب القدرات والعقليات الجيدة فإنهم ليسوا من صنع هذا النظام التعليمي بل هم من صنع أسرهم وإمكاناتهم الخاصة واستعداداتهم الطبيعية التي لم يؤثر فيها النظام التعليمي كثيرًا. إنّ من أكبر المشكلات التي تواجه التعليم في كثير من البلاد تتمثل في اختلاف المعايير التي تحكم العملية التعليمية وتوجهها وتحدد نوعيته سواء اتصلت المعايير بالأشخاص وأفكارهم أوبالمدرسة أو الأداء والتقويم أو بمدى ملاءمة التعليم مع احتياجات البيئة لأن أنظمة التعليم في الدول الصناعية لا تتناسب مع الدول النامية كما أن نظم التعليم في دول غير إسلامية لا تتناسب مع الدول الإسلامية ذات الأصالة والخصوصية العقدية والاجتماعية والقيمية وغير ذلك. إنّ جودة التعليم ونوعيته لايقاسان بمردوده الاقتصادي أو الاجتماعي بقدر ما يقاسان بمدى الملاءمة بينه وبين قيم المجتمع وأهدافه وعقيدته وكلها تحدد نواحي نشاطه الاجتماعي والسياسي وغيرها، إضافة الى ما يحققه التعليم من تلبية لحاجات المجتمع تتناسب مع آماله وطموحاته وظروفه المتناسقة مع قيمه ومعتقده. إنّ كثيرًا من الناس يريدون من التعليم أن يعد القوى العاملة حسب احتياجات الدولة في رؤيتها الإستراتيجية المستقبلية ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو هل تعلم الدول أبناءها ليوظفوا ويعملوا فيها أم أن التعليم لكل إنسان بحكم إنسانيته وبحكم إعداده ليكون انسانًا صالحًا لنفسه ومجتمعه وعالمه الذي يعيش فيه؟؟ الدولة أيًا كانت ملزمة أن تؤهل رعاياها تأهيلاً يتناسب مع مطلوبات عصرهم ومستلزمات حياتهم ولكنها ليست ملزمة بان توظف كل من تعلم لأن مناشط كثيرة في الحياة تنتظرهم ولأن الوظيفة لا تستوعب طموح الطموحين وأصحاب القدرات ولا تغطي حاجة قطاعات الحياة المختلفة. التخطيط المستقبلي للتعليم ينتظر منه أن يتسم بالعقلانية والمعقولية بحيث يخلو من التناقضات والطموحات التي لا يسندها الواقع الآني ولا المستقبلي فالتخطيط في كثير من البلاد ادى لتوجه التعليم وجهات مختلفة لأنها لم تكن دقيقة ومحكمة وكان نتاج ذلك وفرة كبيرة في خريجي العلوم الإنسانية كما يسمونها ومعاناة في العلوم التطبيقية والفنيين في المستويات المختلفة أو وفرة عددية وليست نوعية في بعض العلوم التطبيقية. إنّ كل مشكلات التعليم يمكن علاجها إذا ترك الأمر لأهله واذا ترك التركيز على الشكليات التي تستنزف الجهد والمال وإذا كان التركيز على المحتوى الدراسي وتسلسله الأفقي والرأسي وقدرته على تنمية الأفكار وتغيير المفاهيم والاتجاهات المؤثرة في تعديل السلوك وتفعيل القيم بحيث يكون ناتج التعليم عقولاً مفكرة وافكارًا مؤثرة وآراء مثمرة ونفوسًا نظيفة وشخصيات قوية وهممًا عالية وأذواقًا راقية واهتمامات في الحياة كبيرة وقدرة على مواجهة الشدائد والصعاب مع الأمانة والخوف من الله سببحانه والمسؤولية والتجرد والإخلاص في الحياة والعمل والاعتزاز بالعقيدة والدعوة لها والتمسك بها كما كان جيل بناة الحضارة التي قامت على العلم والمعرفة أصالة وترجمة واقتباسًا وتطويرًا وتفعيلاً.