قبل مدة ليست بالطويلة اختلفت إحدى الجماعات الدينية عندنا في أمر المشاركة في السلطة مع الحكومة من عدمها، وانقسمت الى جناحين، جناح يرى في المشاركة أمراً ملحاً، وجناح متطرف يعرض سياسات الحكومة ومنهجها في قضايا جوهرية ناهيك عن المشاركة فيها، والخلاف يؤدي الى انشقاق الجماعة تماما، وفجور في المخاصمة بين الجناحين المتصارعين. والجماعة المناط بها إنزال الفكر الاسلامي واتخاذ منهج الدعوة سببا للترغيب بالحسني والمجادلة بالتي هي أحسن تسقط في فخ الخصومة والهجران التي تجاوزت الليالي الثلاث الى يومنا هذا ولكنها سكرات السلطة ونفوذ السلطان الذي يجعل الخلاف يتجاوز الأطر الإسلامية إلى مهالك الخصومة الفاجرة. وزعيما الجناحين المتصارعين يدخلان ساعتها حيز التراشقات والملاسنات اللفظية، وأحدهم يقول لصاحبه ساعتها «أنا بكرهك بكرهك بكرهك وما بنتلاقي الا يوم القيامة» ولم تجمع اللقيا بين الرجلين، فقد ذهب القائل الى ربه ووقف الآخر على قبر صاحبه يذرف الدموع لاعنا الشيطان الذي دخل بينهما وأفسد ما كان موصولا بينهما. ذلك نموذج من الخصومات الفاجرة التي اشتهرت بها خصوماتنا الدينية منها والسياسية، فالخلاف ينبغي أن لا يتجاوز النقاط الخلافية ويعطي للعلاقة الشخصية وعلاقة القرابة فسحة بين طيات تلك الخلاف، ولكن في واقعنا قد يذهب الخلاف بخير الصحبة والعلاقة الحميمة برغم السنوات ومجاهدات العمل الطويلة. ولكنها تسقط عمدا في تلك البحور المتلاطمة التي لا تسمح أمواجها لسفن الإنقاذ والمصالحة بالوصول اليها وانتشالها، ولكنه الفجور الذي يحيل بياض الصحبة والولاء إلى سواد العداوة والبراء. عندما نقيس ذلك بواقعنا قد نرى عجبا وخصوصا ممن نرجو منهم ونتوسم فيهم الصلاح، ولكنهم يقعون في أوحال الخصومة الفاجرة التي لا ترضي الا بالتشفي الصريح والمطاعنة الفاحشة التي ربما يعتورها الطعن في جوهر الأخلاق والدين، والتي تصيب الأتباع والحيران قبل المراقبين بالدهشة، فما عاد الخصام معركة فكرة وقضية لا تفسد للوداد والمحبة عنصرها، بل تجاوز ذلك ليقضي على الفكرة وعلى معنويات الأشخاص وقتل شخصياتهم. ولعلي أطلعت على حوار يقدح فيه صاحبه في رأس الطريقة الدينية، وقال فيه ما لم يقله مالك في الخمر، بتهم صريحة في جوهر الدين والأخلاق، ولم يراع المحاور لحق الصحبة والقرابة ولا حق الدين في فقه الستر والمداراة، فطفق يخرج كل هوائه الساخن من جوفه، ولو كان فيه من السموم ما يصيب بحرها القريب والبعيد. والخلاف عند العلماء عندما يتجاوز الأدب المشروع الى الفجور اللدود يعد من باب التحاسد، والرسول الكريم يشدد على كراهية ذلك الخلاف، بل وحتى التابعين على الرغم من اختلاف المذاهب إلا أن الاختلاف بينهم كان رحمة للعالمين لا فجورا بين المتخالفين، والخلاف بين السياسيين عندما يتجاوز حدوده يكون فجوراً يتجاوز ذلك الى انتهاك الخصوصية ونشر الغسيل والتدمير المعنوي ثم الموت البطئ للشخصيه المستهدفة. الخلاف حول الأصول والثوابت ينبغي أن يحسم في دائرته بعيداً عن الإعلام واللجوء اليه، لأنه خلاف حول الأفكار وترجيحها والأخذ بغالب البلد وإدخال الوسطية وموافقة السلطان والجرأة المحمودة في التعاطي مع قضايا العصر التي تحتاج للقياس والموازنة، وأي اختلاف حول ذلك كما قلت مكانه بين العلماء بعيداً عن العامة، وأية محاولات لتشويه صورة فلان والدخول في حيز الخصوصية ربما اتهم صاحبه في سمته وخلقه، وربما أودى كلامه إلى فتنة القائم فيها أفضل من القاعد. الفجور في المخاصمة داء عضال اُبتلي به علماؤنا وسياسيونا على مر العقود، فالاختلاف في الرأي بين الجماعة الواحدة ربما أودى بصاحبه إلى مدارك المنبوذين وإلى مراتب الأشقياء دون حفظ للمجاهدات والمقامات التي ربما يكون في حفظها إثبات للحقوق وايمان بالأفكار، ولكن في واقعنا ربما تعصف الخلافات بخير البلاد وخير الجماعات والأفراد، بعيداً عن القواعد والأصول التي ترتب مقاييس العلاقات بينهم وبين فقه الولاء والانتماءات لحسم كل خلاف.