في فترة ثلاثنييات القرن العشرين، شهدت الأوساط الثقافية في السودان حركة أدبية عظيمة، ازدهرت فيها ألوان شتى من الأنماط الأدبية والإبداعية في مجال الشعر، والقصة، والنقد الأدبي.. وقد حظيت القصة القصيرة الى جانب ضروب الأدب الأخرى، بإبداعات نخبة مرموقة من الكتاب، أمثال الأديب السياسي، الأستاذ محمد أحمد محجوب، والسيد الفيل وبدوي ناصر، ومعاوية محمد نور، وعبد الله أبو شمة وعبد الحليم محمد، وخوجلي مصطفى أرباب وآخرون. ٭ وفي فترتي: الخمسينيات والستينيات، برزت كوكبة أخرى من كتاب القصة القصيرة يتقدمهم الأستاذ عثمان علي نور بجانب فؤاد احمد عبد العظيم وعيسى الحلو، والطيب زروق، وعبد الرحيم أبو يزيد، والزبير علي، وخوجلي شكر الله، والطيب صالح، وعبد الله حامد الأمين، وصلاح احمد ابراهيم ونبيل غالي واحمد محمد الأمين وعلي المك ومصطفى عوض الله بشارة وملكة الدار محمد وآمنة بنت وهب وأسماء بنت الشمالية وآخرون. وللأستاذ عثمان علي نور، أسلوب قصصي متفرد، يستلهم خصائصه وسماته من الواقع السوداني، إذ يصوغ أحداثه، ومواقفه، وشخوصه بروح الإنسانية، والواقعية، وجوهر الفن. وفي دراسة لي، سابقة عن مجموعة قصصية للأستاذ عثمان علي نور، نشرتها في كتابي: (أضواء النقد) الصادر عام 1977م، عن الدار السودانية للطباعة والنشر بالخرطوم، قلت عن كتابه (الحب الكبير): لقد أعجبتُ بصفة خاصة بمعالجته وعرضه لقضايا المجتمع من خلال نماذجه الإنسانية البسيطة، لا سيما عند تطرقه وتعرضه لمشكلات الأسرة وتقاليدها، وظواهرها الإيجابية والسلبية في حياة الناس. ٭ وعن دار القومية العربية للثقافة والنشر بالقاهرة، صدرت مجموعة قصص قصيرة بعنوان: (معالي الوزير) للأستاذ عثمان علي نور.. وقد اشتملت هذه المجموعة على (14) قصة قصيرة. وفي العالم القصصي الذي صوَّره الأستاذ عثمان علي نور بإجادة واتقان من خلال الشخوص والأحداث، أحسست بمتعة ذهنية أثناء اطلاعي، ومتابعتي لما يعتمل ويختلج في وجدان الشخوص بشفافية الحركة والانفعال في مسرح الأحداث والمواقف المختلفة التي أوردها المؤلف في مجموعته القصصية: (معالي الوزير). ٭ وبأسلوب فني رشيق يشفّ عن عواطف حب عفيف في قلب شابة مثقفة، مرهفة الإحساس، تصطدم بقرار الأب القاسي الذي يفرض عليها زواجاً يفرق بينها وبين من تحب وتهوى، يسرد الأستاذ عثمان علي نور وقائع هذه الأحداث في قصته: (البداية والنهاية) قائلاً: كانت إرادة أبي هي النافذة.. وكما قالت والدتي لم يكن في استطاعتي او استطاعتها أن نقف ضد إرادته.. وهكذا تم الزواج في الموعد الذي حدده.. وهكذا ودّعت آمالي في الحياة السعيدة الهنيئة التي كنت أحلم بها مع من أحب! وتمضي الفتاة الى القول: إني حزينة من أجل هذا الزوج! حزينة لما سببته له من ألم وخيبة أمل! وشهد الله إني حاولت التغلب على البرود الذي أعامله به.. ولم تفته ملاحظة برودي نحوه.. وكثيراً ما سألني عمَّا بي، فكنت أجيبه بأنه ليس بي شيء، فكان يصمت محاولاً إخفاء ألمه، وخيبة أمله! ولو اني تزوجته وأنا حرة لم أرتبط بوعد، ولم أهب قلبي لحبيب، لكنت أسعدته، وسعدته به! وفي قصة (النار.. والذهب) يصور الأستاذ عثمان علي نور من خلال الشخوص والحوار، عمق الصلات والوشائج الحميمة التي تجمع بين شعبي وادي النيل: مصر والسودان. ولنقرأ المقتطفات التالية من قصة: (النار.. والذهب) لندرك قوة العلاقة الأزلية والحميمة بين الشعبين الشقيقين، إذ يقول المؤلف: كان الموسكي مزدحماً كعادته كل مساء، وكنت قد ذهبت اليه لشراء بعض الهدايا قبل عودتي للخرطوم.. وبينما أتجول بين دكاكينه، إذا بي أسمع صفارة الإنذار تنبعث، فوجمت، وما هي الا لحظات حتى أطفئت الأنوار، وخيم الظلام على الموسكى، بل على القاهرة كلها. وأخذنا نتلمس طريقنا في الظلام، والبواب يمسك بيدي وهو يقول: - هم فاكرين إيه... حيرجعوا يستعمرونا... يا أخي ده بعدهم! - وقلت له: حننتصر عليهم إن شاء الله... وذات يوم وأنا عائد من مركز التدريب الى حيث أقيم، التقيت بعمر عويس، فاندفع نحوي محيياً بحرارة وشوق، ثم طلب مني أن أصحبه الى منزل عمه بحي عابدين، فاعتذرت، ولكنه أصرَّ على ذهابي معه، وقال لي: عاوز أعرفك بعمي وولاد عمي وخطيبتي ولم أجد أمامي إلا أن أقبل... وكنت قد تعرفت بعمر في أم درمان، وكان يعمل في أحد المحال التجارية، وتوثقت بيننا الصداقة. ووصلنا المنزل، واستقبلنا عمه.. وبعد أن قدمني اليه عمر، دخلت علينا فتاة رائعة الجمال ترتدي الزي العسكري... وقال لي عمر وهي تمد يدها لتصافحني، إنها ابنة عمه... وبجانبها شقيقها الصغير يلبس بدلة ضابط ويمسك بندقية خشبية كبيرة! وفجأة رأيت عمر يقف مودعاً، ويخرج من المنزل، وهو يقول: - أنا لازم أقيد اسمي حالاً مع المتطوعين، ما أقدرش أروح البيت تاني بالملابس دي والستات والعيال الصغيرين لابسين حربي!! وفي قصة (معالي الوزير) تختل المعايير الطبقية والاجتماعية، إذ يجعل المؤلف شخصية «الوزير» بوضعه السياسي والاجتماعي المميز، تهتز وتتضاءل أمام أسرة صغيرة وفقيرة، ولكنها غنية ومعتزة بقناعتها ووضعها الاجتماعي! وفي كتاب (معالي الوزير) مجموعة جيدة من القصص القصيرة، نذكر منها «الهدير» و«الوجه الآخر للمدينة» و«مرجان»... ورحم الله أديبنا الكبير الراحل عثمان علي نور وأسكنه فسيح جناته مع الصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقاً.