مادمنا نمد أبصارنا إلى ما وراء حدودنا قبل أن نتثبت من مواقع أقدامنا، فإننا سننتظر طويلاً حتى تستعيد مصر عافيتها بحيث يصبح بمقدورها أن تقول لا لأي «بلطجي» يستهين بها أو يدوس لها على طرف. «1» المنطوق أعلاه تلخيص مخفف للشهادات التى وقعت عليها خلال الأسبوع الفائت، بعدما قلت فى مقال الثلاثاء الماضى «6/3» إن فضيحة تسفير الأمريكيين المتهمين فى قضية التمويل الأجنبى للمنظمات الأهلية جاءت كاشفة عن المدى الذى بلغه ضعف السلطة فى مصر أمام الضغوط الأمريكية. وهو الضعف الذى جعلها غير قادرة على أن تقول لواشنطن «لا». ودعوت لأن نحول الأزمة إلى فرصة نعيد فيها احتشادنا الوطنى وترتيب أولوياتنا لكى تسترد مصر عافيتها المجهضة والمهدرة. تعددت أصداء هذه الدعوة، وقد تلقيتُ بعض تلك الأصداء فى حين تحريت البعض الآخر. من بين ما تلقيته من رسالة تقطر غيظًا ومرارة من قارئ قديم، طلب منى ألا أذكر اسمه لأنه بات مقتنعًا بأنه «ينفخ فى قربة مقطوعة» ولكنه أراد أن يرضي ضميره بهذه الرسالة. قال صاحبنا إن مصر ليست بلدًا ضعيفًا ولكنه منكوب ومنهوب، منكوب بالذين أداروه لعدة عقود ومنهوب من جانب أصحاب المصالح فى الداخل وفى الخارج. وضرب مثلاً بالنهب العظيم الذى تعرضت له الثروة العقارية فى مصر، حين وزعت أراضيها الشاسعة على ثلة المنتفعين من أركان النظام السابق. وتواطؤ هؤلاء مع آخرين من خارج البلاد حيث اقتسموا معهم الغنيمة بصور شتى. أضاف أن ذلك يهون إلى جانب الفضيحة التى دوَّت مؤخرًا خاصة بمنجم الذهب فى منطقة البحر الأحمر. وذكر أن الذهب الذى استخرجه الفراعنة قبل خمسة آلاف سنة، عجز المصريون المحدثون عن استخراجه، فأوكلوا العملية لشركة أسترالية وزعت من جانبها الغنيمة على «9» شركات أخرى. ليس ذلك فحسب، وإنما كان مدهشًا أن التعاقد مع الشريك الأجنبى أعطاه الحق فى أن يحصل على «70%» من إنتاج منجم السكرى، فى حين لا يحصل الشريك المصرى إلا على «30%» فقط. ومن هذه الحصة الأخيرة تدفع مصر تكلفة استخراج الذهب، أما الذى لا يقل تعاسة عن هذا وذاك أن مدة ذلك العقد المجمعة تصل إلى 30 عامًا، يستمر خلالها استنزاف ثروة مصر من الذهب لصالح الشركات الأجنبية. أحالنى صاحب الرسالة إلى تقرير عن الموضوع نشرته جريدة الأهرام يوم الجمعة الماضى «9/3»، بمناسبة زيارة لجنة الصناعة والطاقة بمجلس الشعب لموقع منجم السكرى. إذ سجل صراحة أن «مصر تعرضت لخديعة كبرى واستُدرجت لتوقيع اتفاقية إنتاج الذهب بشروط مجحفة للغاية». أضاف التقرير أن صخور جبل السكرى تحتوى على نسبة عالية من خام الذهب، تعد بين الأعلى فى العالم، حيث يحتوى طن الصخور على ستة جرامات من الذهب، فى حين أن المتوسطات المعتادة فى المناجم الأخرى تتراوح بين 1.5 و4 جرامات. إضافة إلى ذلك هناك شبهات كثيرة تحوم حول إدارة الشركات التسع للمنجم بشراهة تنم عن إفراط فى الاستنزاف، كما أن هناك شبهات أخرى حول إحكام الرقابة المصرية على ما يخرج منه. «2» وثَّق هذا الرأى زميلنا الأستاذ أحمد النجار، رئيس تحرير التقرير الاقتصادى الذى يصدره مركز الدراسات الاستراتيجية بمؤسسة الأهرام. إذ نشر فى هذا المعنى مقالاً تحت عنوان «التبعية الاقتصادية والنهب الاستعمارى الراهن لمصر» «الأهرام 16/2». وقد ذكر فيه معلومة مثيرة بالنسبة لى على الأقل خلاصتها أن المستثمرين الأجانب والعرب أدخلوا إلى مصر خلال السنوات الثلاث الأخيرة من حكم الرئيس السابق السنوات «2008 9 10» 28 مليار دولار إذا أضيفت المعونة الأمريكية وأخرجوا منها نحو 86 مليار دولار. وهو مبلغ يتجاوز 500 مليار جنيه، الذى يعادل 24 ضعف قيمة المعونة التى حصلت عليها مصر خلال تلك الفترة. فى مقال آخر نشرته له الأهرام فى 1/3 انتقد بشدة فتح باب التبرعات النقدية أوالتنازل عن أجر يوم من المرتب الشهرى للعاملين بهدف تعويض المعونة الأمريكية التى لوح البعض فى واشنطن بقطعها إبان الأزمة الأخيرة بين البلدين. وأثار فى مرافعته عدة نقاط هى: أن حصيلة أجر يوم يتبرع به العاملون فى أجهزة الحكومة تقل عن 60 مليون جنيه، فى حين أن كل العاملين فى الحكومة والقطاع العام والخاص إذا تبرعوا بأجر يوم فإن ذلك سيظل فى حدود 150 مليون جنيه. أما قيمة المعونة الأمريكية العسكرية والمدنية فهى فى حدود مليار و550 مليون دولار، تعادل نحو 9.3 مليار جنيه. هذه المعونة الأمريكية التى تستخدم كعصا يلوح بها لتهديد مصر تبقى هامشية بالمقارنة مع الناتج المحلى الإجمالى المصرى الذى بلغ 1373 مليار جنيه فى العام المالى الماضى. ويقدر له أن يبلغ 1570 مليارًا فى العام المالى الحالى «2011 2012»، وهو ما يعنى أن قيمة المعونة الأمريكية تقل عن نصف فى المائة من الناتج المحلى الإجمالى. وهى نسبة ضئيلة يمكن الاستغناء عنها بسهولة. أن علاقة الدولة بالمواطنين لا تقوم على التبرعات، ولكن الضرائب التى تفرض على القادرين هى الصيغة التى تم التوافق عليها لتنظيم تلك العلاقة. ولو أعيد النظر فى النظام الضريبى بحيث يصبح متعدد الشرائح وتصاعديًا. كما يحدث فى أغلب دول العالم، وتم تحصيل مستحقات الدولة بشكل صارم لاختلف الأمر، ذلك أن كبار الرأسماليين فى مصر عليهم متأخرات بقيمة 63 مليار جنيه، تعادل سبعة أضعاف المعونة الأمريكية. يمكن لمصر أن تحقق دخلاً إضافيًا يبلغ أكثر من ضعف المعونة الأمريكية سنويًا لو حصلت على أسعار عادلة من صادراتها من الغاز. ويمكن الاسترشاد فى ذلك بما فعلته الولاياتالمتحدة بعد احتلال العراق فى عام 2003.. إذ ألغت العقود التى أبرمها نظام صدام حسين مع شركات النفط الأجنبية بدعوى أنها ليست ملزمة للشعب العراقى، وأجرت اتفاقات جديدة مع شركات الدول التى اشتركت فى الغزو، وتستطيع مصر أن تنظم حملة مماثلة لإبرام عقود جديدة تتسم بالعدل والإنصاف لكى تتخلص من النهب الاستعمارى الذى تعرضت له، ولكى تتخلص من الديون التى كبّلها بها نظام مبارك. «3» الدكتور حازم الببلاوى نائب رئيس الوزراء ووزير المالية السابق له ملاحظات أخرى يتلخص أهمها فيما يلى: إن الوضع الاقتصادى لمصر لم يتم التعامل معه بما يستحقه من جدية وحزم، سواء من جانب السلطة أو من جانب المجتمع. وقد تحدث فى كتابه الذى أصدره عن الأشهر الأربعة التى أمضاها فى منصبه عن خطة من 13 نقطة لإنقاذ الاقتصاد المصرى «تبنتها وزارة المالية أخيرًا» إلا أنه يعتبر أن الدولة لم تصارح المجتمع بالحقيقة ولم تعتمد بعد سياسة شد الأحزمة على البطون. فلم تفعل مثلاً ما فعله رئيس الوزراء البريطانى ونستون تشرشل حين تولى منصبه فى أثناء الحرب العالمية الثانية وقال للإنجليز صراحة إنه يعدهم بالدم والدموع والعرق قبل أن يقودهم إلى النصر فى النهاية. أما فيما خص المجتمع فإنه يبدو متعجلاً فى تحصيل الاستحقاقات التى لا يشك فى مشروعيتها. وبسبب ذلك الاستعجال فقد بدا وكأن الناس يريدون الثمرة أولاً والشغل ثانيًا، فى حين أن العكس هو الصحيح. نتيجة لذلك فقد وجدنا تنافسًا على توجيه المطالب وتحصيل الحقوق، ولم يتوافر ذلك مع الدعوة للقيام بالواجبات. وفى الوقت الذى أطلقت فيه النداءات لصالح تحقيق العديد من المطالب السياسية، فلم تنتبه النخب التى تصدّت لتلك المهمة إلى ضرورة دعوة الناس للشغل. ولم يقترح أحد مثلاً أن تزيد مواعيد العمل مدة ساعة تطوعًا بغير أجر لتحريك عجلة الإنتاج التى تمثل الخطوة الأولى فى الإنقاذ المنشود، وذلك أجدى وأنفع من التبرع بأجر يوم مثلاً لصالح خزينة الدولة. إن دعم المواد البترولية يحمِّل الدولة عبئًا ثقيلاً للغاية «95 مليار دولار». والتخفف من ذلك العبء يجب أن يبدأ بإلغاء ذلك الدعم بالنسبة للصناعات كثيفة الاستخدام للطاقة «الحديد والسيراميك والأسمنت والألومنيوم مثلاً». ذلك أن منتجات تلك الصناعات تباع بالأسعار العالمية حتى فى الداخل. فى حين تحصل على الطاقة بالأسعار المحلية المدعومة، وهو ما يعنى أن الدولة لا تدعم المستهلك فى حقيقة الأمر، لكنها تعمل على زيادة أرباح المستثمر على حساب المستهلك. لا غضاضة فى الاقتراض من الخارج الذى يستفيد منه المقرضون والمقترضون، إلا أنه ينبغى توفير أجواء مواتية فى الداخل. بالتالى فإنه لا ينبغى المبادرة إلى توجيه اللوم للدول العربية التى لم تستثمر فى مصر، لأن السؤال الذى ينبغى أن نطرحه ليس لماذا لا يأتون؟ وإنما يتعين أن نسأل أولاً لماذا لم ننجح فى جذبهم إلى مصر؟ «4» الذين حدثتُهم اتفقوا على التهوين من شأن حملات جمع التبرعات التى أطلقها بعض الهواة الطيبين سواء لتعويض المعونة الأمريكية فى حال قطعها أو التبرع بأجر يوم من العاملين. وإضافة إلى ما سبقت الإشارة إليه من ضعف تأثير أمثال تلك الموارد، فإن الخبراء من أهل الاختصاص رأوا فى أمثال تلك الدعوات تعبيرًا عن حسن النية وتبسيطًا للمسألة حوَّلها إلى فرقعات إعلامية بأكثر منها إسهامات جادة فى إنقاذ الموقف. ومما قالوه إن تلك التبرعات، فضلاً عن كونها نقطة فى بحر، فإنه تعد إسهامات مؤقتة تنقل بعض السيولة النقدية فى الداخل من يد إلى يد أخرى. ولا تشكل إضافة تذكر للاقتصاد القومى. لدى أولئك الخبراء كلام كثير فى تشخيص أزمة العافية الاقتصادية للدولة المصرية وكيفية استعادتها. وثمة بحث منشور للرئيس التنفيذى للمجموعة المالية هيرميس، حسن هيكل، رصد فيه ست مشكلات تواجه مصر وقدم لها عشرة حلول رأى أنها يمكن أن تنقل مصر إلى مستوى قوة الاقتصاد التركى خلال عقد واحد. من تلك الحلول وقف الهدر المتمثل فى دعم النفط والطاقة. وتطبيق ضرائب تصاعدية على دخل الأفراد لكى تصل إلى 25% بالنسبة للشرائح العليا «وهو ما يحدث فى أعتى الدول الرأسمالية»، وتطبيق الضريبة ولو لمرة واحدة على كل من تزيد ثروته على عشرة ملايين دولار، علمًا بأن أثرياء مصر لم يدفعوا أكثر من 1 أو 2% من دخولهم السنوية لمصلحة الضرائب، والبدء فى تنفيذ بعض المشروعات القومية الكبيرة، التى من بينها مثلا تحويل قناة السويس من مجرى مائى إلى مركز تجارى عالمى...الخ. إزاء تعدد الاجتهادات فى الموضوع، واتفاقها فى بعض النقاط كما رأيت، فليس مفهومًا ألا يُدعى أولئك الخبراء إلى لقاء وحوار يتوافقون فيه على «خريطة طريق» لاستعادة عافية الاقتصاد المصرى. ويظل مستغربًا أن تجد آراء أولئك الخبراء مبعثرة بين مقالات الصحف والبرامج الحوارية التليفزيونية. وكل منهم فى وادٍ والحكومة فى وادٍ آخر وربما المجلس العسكرى فى وادٍ ثالث. لقد تشكل فى مصر مجلس استشارى لا لزوم له لمناقشة المسائل السياسية. وتجاهلنا تشكيل مجلس مماثل للأمور الاقتصادية التى هى أكثر إلحاحًا وألزم. وبعدما ثبت عدم جدوى المجلس الأول، فلعلنا نجد نفعًا فى المجلس الثاني.