جاء في الأنباء أن حزب المؤتمر سينتخب في عام «2013»م القادم رئيساً جديداً للحزب يكون هو مرشحه لرئاسة الجمهورية في الانتخابات التي ستجرى بعد ثلاثة أعوام. وأجرت صحيفة الراية القطرية لقاءً مطولاً مع الرئيس البشير أعلن فيه أنه لن يكون رئيساً للسودان بعد انتهاء دورته الحالية في عام 2015م أي أنه لن يترشح للرئاسة مرة أخرى. وهناك نماذج لعدد من الرؤساء أعلنوا تخليهم عن السلطة وكانت منطلقاتهم ودواعيهم لهذا التخلي مختلفة ومنهم الرئيس جمال عبد الناصر الذي أعلن بعد هزيمة يونيو في عام 1967م تحمله للمسؤولية واعترافه بالأخطاء الفادحة التي نجمت عنها الهزيمة وقدم استقالته مفسحاً المجال لغيره ورشح السيد زكريا محيي الدين ليكون خليفة له ورئيساً لمصر بدلاً منه فهاجت مصر وماجت وخرجت المظاهرات الصاخبة الرافضة لهذه الاستقالة والمطالبة ببقاء عبد الناصر في سدة الرئاسة والقيادة ولم تقم لزكريا بعد ذلك قائمة وانزوى بعيداً وطواه النسيان وصرح أحد المصريين من عامة المواطنين بأنه كان ينوي اغتيال زكريا إذا آلت إليه الرئاسة وأصبح خليفةً لعبد الناصر، وتحت هذا الضغط الشعبي أذاع عبد الناصر بياناً أعلن فيه سحبه لاستقالته استجابة لإرادة الشعب المصري وتوهجت نجوميته مرة أخرى وثبت أن تلك كانت عملية ذكية وكان عبد الناصر يطمح في إجراء استفتاء شعبي عفوي يُكسبه تجديداً لشرعيته وكانت بحق مسرحية سياسية جيدة التأليف والإخراج والتمثيل واستُقبل عبد الناصر بعد ذلك في الخرطوم عند انعقاد مؤتمر القمة العربي استقبالاً خرافياً كأنه محمد الفاتح بعد فتح القسطنطينية أو كأنه المعتصم بعد انتصاره في عمورية وكتبت الصحف الغربية أن الخرطوم استقبلت قائداً مهزوماً استقبالاً ضخماً. وخلاصة القول إن تلك الاستقالة كانت مناورة ذكية. والمثال الثاني هو الجنرال ديجول الذي أقام الجمهورية الخامسة في فرنسا عام 1958م وكان بقامته المديدة وشخصيته القيادية القوية من الرؤساء الأفذاذ ورغم شعبيته الكاسحة وشرعيته التي اكتسبها عبر صناديق الانتخابات إلا أنه استقال وهو في قمة نجوميته قبل أن يكمل دورته الرئاسية وتفرغ لكتابة مذكراته وعند وفاته رثاه خليفته بومبيدو معترفاً بأنه كان يغار منه لإحساسه بأنه لم يسد الفراغ الذي تركه ديجول الذي رثاه أيضاً صديقه الأديب اندرية مارلو وزير الثقافة في عهده قائلاً إن فرنسا لبست ثوب الحداد وكانت كاليتيمة بعد وفاته. وإذا قارنا بين الاستقالتين لأدركنا أن عبد الناصر قام بمناورة ذكية، أما الجنرال ديجول فقد استقال ولملم أوراقه وانصرف «أمسك لي وأقطع ليك». وفي إفريقيا استقال الرئيس جوليوس نيريري من رئاسة الجمهورية وترك العاصمة وأمضى بقية عمره بقريته الوادعة، ومن والرؤساء الذين استقالوا وهم في سدة الحكم الرئيس السنغالي سنغور. وقبل أكثر من ربع قرن تنازل الجنرال أوباسانجو وكان على رأس نظام عسكري عن السلطة بمحض اختياره بعد إشرافه على إجراء انتخابات عامة في نيجيريا تم بموجبها انتخاب حكومة مدنية على رأسها الرئيس شيخو شقاري، وبعد سنوات عاد أوباسانجو للرئاسة عبر صناديق الانتخابات ولكن من المفارقات أنه في المرة الأولى لم يتشبث بالحكم وهو في بذته العسكرية ولكنه في المرة الثانية حاول أن يتشبث بالحكم وسعى لتمديد فترة رئاسته ولكن محاولاته باءت بالفشل. وفي السودان أوفى سوار الذهب والجزولي وصحبهما بعهودهم ووعودهم وسلموا السلطة في موعدها بعد إجراء انتخابات عامة كان متفقاً بالإجماع على موعدها وفي كل الأحوال فإن الشعب لم يكن يسمح بتمديد تلك الفترة الانتقالية. وفي مصر امتد عمر نظام ثورة يوليو لستين عاماً تقريباً منذ يوليو 1952م وحتى قيام ثورة الربيع العربي وتعاقب على مصر في تلك الفترة أربعة رؤساء ينتمون للجيش والمؤسسة العسكرية وهم اللواء محمد نجيب وجمال عبد الناصر وأنور السادات وحسني مبارك وقد تخلوا عن الزي العسكري إلا في المناسبات القومية الكبيرة أو الاحتفالات العسكرية وقد تخلوا عن القيادة العامة للقوات المسلحة وعهدوها لغيرهم وعلى سبيل المثال فقد كان المشير عبد الحكيم عامر هو القائد العام للجيش في عهد عبد الناصر قبل نكسة يونيو عام 1967م وهكذا توالى اختيار قادة للجيش في عهود كافة الرؤساء المصريين ولكن ظل كل منهم قائداً أعلى للقوات المسلحة بحكم وضعه كرأس للدولة ورمز لسيادته وإن كافة الرؤساء والملوك في كل أنحاء الدنيا يعتبر كل منهم القائد الأعلى بحكم أنه رأس الدولة وليس بالضرورة أن يكون عسكرياً وعلى سبيل المثال فقد كان السيد إسماعيل الأزهري رئيساً لمجلس السيادة وتبعاً لذلك كان هو القائد الأعلى للقوات المسلحة وكذلك كان السيد أحمد الميرغني رئيساً لمجلس رأس الدولة وبحكم موقعه هذا كان هو القائد الأعلى للقوات المسلحة. وفي عهد الإنقاذ تولى الفريق «المشير فيما بعد» عمر البشير رئاسة مجلس ثورة الإنقاذ الوطني وبعد حل المجلس أضحى رئيساً للجمهورية، وكان منذ قيام الإنقاذ وحتى عام 2010م هو القائد العام للقوات المسلحة بالإضافة لرئاسته لحزب المؤتمر الوطني، ولا يتسع المجال هنا للخوض في تساؤلات عن كيفية صناعة القرار وتوزيع الأدوار وفقاً للاتفاق المبرم بين العسكريين والمدنيين الذين يجمعهم تنظيم واحد وبينهم منلوج داخلي وأن للمدنيين الغلبة في الإمساك بكل مقابض السلطة تخطيطاً وتشريعاً وتنفيذاً، ولم يكن وضع الرئيس وتمسكه بانتمائه للمؤسسة العسكرية يسبب لهم ضيقاً ولا ندرى كيف يحدث التحول في المرحلة القادمة من واجهة عسكرية للرئاسة لواجهة مدنية. وإن على أمين القطاع السياسي والعاملين معه بالقطاع إجراء مراجعات ويحتاج الوضع منهم لوقفات وتنسيق مع القطاعات الأخرى الاقتصادية والمختصة بالعلاقات الخارجية لرسم سياسة تخدم الديبلوماسية والتنمية وتجذب المستثمرين، وبالطبع إن الوضع الاقتصادي يؤثر على الأوضاع السياسية والأمنية ويجب ترك المغالطات وعدم دفن الرؤوس في الرمال والاعتراف بأن الأوضاع الاقتصادية تحتاج لمعالجات إسعافية عاجلة وقد بدأت منذ الآن الشكوى تظهر في بعض الولايات بإعلان البعض أن المرتبات أخذت تتأخر ويخشون أن تتراكم بعد فترة لعدة أشهر كما كان يحدث في الماضي، وإن الوطن الآن مجابه بحرب اقتصادية تديرها القوى الأجنبية وتستعمل فيها دولة الجنوب كمخلب قط وقد ارتفع سعر الدولار في السوق الموازي وبلغ خمسة آلاف جنيه قابلة للزيادة. وإن أمريكا الآن على أبواب انتخابات رئاسية قادمة وسيتبارى المرشحون لكسب ود وتعاطف ودعم اللوبيات الضاغطة في أمريكا صهيونية وإسرائيلية وزنجية وغيرها وهي تتعاطف مع دولة الجنوب ولا تخفى عداءها للنظام الحاكم في السودان وتسعى لإضعافه بشتى السُبل وها هي تسعى لسن قانون عقوبات ضد السودان تدفع به لمجلس الأمن. وفي ظل هذه الظروف فإن الحديث منذ الآن عن اختيار مرشح لرئاسة الجمهورية لانتخابات ستجرى بعد ثلاثة أعوام في عام 2015م فيه صرف للمجتمع والدولة عن القضايا الحيوية الساخنة لقضية غير عاجلة وتقبل التأجيل حتى العام 2015م لتطرح قبل ثلاثة أشهر من فتح باب الترشيح وإن طرح المسألة الآن قد يؤدي لظهور مراكز قوى ضاغطة و«شلليات» تشغل الجميع بقضايا انصرافية وبعضهم قد يحسب بصدق أن بقاء المشير البشير في سدة الرئاسة يسهم في حفظ التوازن بين مكونات النظام وقد يكون على النقيض منهم من يتمنى تخلي البشير عن سدة الرئاسة اليوم قبل الغد ولكنهم لا يجرأون على الجهر بنواياهم.. وأخطر من هؤلاء من يتخذون من إعلان البشير نيته في التنحي بعد ثلاثة أعوام فرصة للتقرب والتزلف بالملق الرخيص ويبدأ بعضهم في تجميع الحشود لمبايعته مع إقامة الاحتفالات والكرنفالات وتضييع وقته ووقت البلاد والعباد. وعلى القطاع السياسي وحزب المؤتمر الوطني صرف النظر عن التفكير في عقد مؤتمر عام في عام 2013م لاختيار رئيس جديد للحزب، وحتى إذا عُقد هذا المؤتمر ينبغي ألّا يدرج فيه بند اختيار رئيس جديد للحزب لأن اختياره يعني خلق ثنائية وازدواجية ويصبح المشير البشير رئيس الجمهورية مرؤوساً تحته في الحزب، ويصبح رئيس الحزب الجديد مرؤوساً تحت البشير إذا كان يشغل منصباً تنفيذياً أو سيادياً أو حتى بالمواطنة إذا لم يكن شاغل موقع في الدولة، والأمثل هو تجميد هذا الموضوع وعدم طرحه إلا في عام 2015م وعندها يمكن تحديد اتجاه البوصلة وفقاً للمعطيات والظروف المحيطة الماثلة وقتئذٍ.