سيخرج علينا دهاقنة الاتفاقية الإطارية التي وُقِّعت بالأمس مع دولة جنوب السودان حول الجنسية والمواطنة والحريات الأربع والحدود، وسيقولون بلسان العقلانية الباهت «ليس بالإمكان أحسن مما كان» وأن التعقل والحكمة تقتضيان ذلك وتفرض الواقعية السياسية أحكامها.. ولا بد ممّا ليس منه بد...»!! سيكون هذا هو تبرير أهل الحكومة، في تمرير هذا الاتفاق الإطاري الكارثي مع دولة الجنوب، ففي الوقت الذي كانت فيه أقلام الوفد المفاوض من طرفنا متعجِّلة للتوقيع وسط الابتسامات المصطَنعة والضحكات الحرون، كانت الحركة الشعبية التي تحكم الجنوب، تجمع عملاءها من قيادات ما يسمّى بالجبهة الثورية، وتنظم لهم اجتماعاً مع نصر الدين الهادي المهدي ممثل حزب الأمة القومي المشارك مساعد رئيسه ونجله، عبد الرحمن الصادق المهدي في أعلى قمة السلطة، وممثل الحزب الاتحادي الأصل المشارك مشاركة كاملة في السلطة، التوم هجو، لتنسيق العمل السياسي والعسكري وترتيب الأمور مع قوات الجبهة الثورية المعارضة، لما يسمّى بإسقاط النظام... تصافح حكومة الجنوب، حكومة السودان بيد، بينما يدها الأخرى تغرس خنجرها المسموم في ظهر حكومتنا التي تصدِّق بطيبة لا تصدَّق، كل ما يقال لها ويُعرض أمامَها.. لقد سئمنا من هذه الألاعيب التي تمارسُها الحركة الشعبية والمجتمع الدولي والقوى الإقليمية التي تظاهر دولة الجنوب وتسوّي لها الطريق وتهيئ لها الأجواء لتعيش وتسعى لتجنيبها المخاطر، وتنفخ فيها الروح وتساعدها على حسابنا وتؤسس لها أرضية تقف عليها وتنطلق... هذا الاتفاق الإطاري حتى نكون موضوعيين، لا توجد فيه أي منفعة لنا، فالمواطنة والجنسية والحريات الأربع، هي مطالب جنوبية وليست سودانية، ومصالح الجنوب معنا وخاصة في هذا الصدد أكثر بما لا يقارن بمصلحتنا معها في ذلك، فالمستفيد من هذه المواطنة والحريات الأربع، هم لا نحن!! فما هو النفع الذي نجده من تمتُّع مواطن دولة أجنبية بكل هذه الحقوق في التملك والتجارة والتنقُّل والإقامة؟؟ سيخرج علينا من يقول إن ذلك فيه مصلحة لشريحة الرعاة والسودانيين المقيمين هناك، كم عدد المقيمين في الجنوب مقارنة بالمقيمين من رعايا هذه الدولة المترنِّحة عندنا؟ لا توجد مصلحة كبيرة، بل العكس هناك استغفال أكبر وأضخم، فالجنوب الذي لا توجد فيه خدمات ولا مقوِّمات دولة، يحاول أو تحاول بعض الجهات الدولية مساعدته في تخفيف أعبائه وتقليل مسؤولياته، بجعل السودان يتحمَّل بالنيابة عنه إقامة من يشاء من مواطني الجنوب في أراضي السودان متمتِّعين بحقوق ضمّنتها الحريات الأربع وهيأتها لهم.. فما يقارب المليون جنوبي سيكونون هنا وسيأتي غيرُهم خاصة الذين عادوا ولم يجدوا «جنة عدن» التي منّتهم بها الحركة الشعبية وروَّجت لها طوال سنوات عديدة، عادوا ولم يجدوا غير الخراب والدمار والحروب والقهر والقتل والفساد والقتل والسحل والفقر والفاقة والعوز ونقص الخدمات والعيش في ظل أوضاع لا ترتقي لمقام الإنسان... سيخرج علينا اليوم أو غداً من يقول إن الاتفاق الإطاري، ليس ملزماً ...!! والأمر متروك للجان المشتركة!! فهل تستطيع هذه اللجان فعلَ شيء غير ما تم التوصل إليه، ثم يُرفع الأمر للقمة المرتقبة بين الرئيسين للمصادقة؟ لقد علمتنا تجربة نيفاشا، أن مثل هذه الاتفاقيات، يُدس فيها السم في الدسم، ويتم فيها التلاعب بالألفاظ والعبارات ويقبع الشيطان في تفاصيلها، مما يجعلها اتِّباعاً للنهج النيفاشي الذي زرع في جسد بلادنا هذا السرطان اللئيم.. قبل أن يصادق الرئيس البشير على هذه الاتفاقيات الإطارية، علينا أن نطرح أسئلة بسيطة: من الذي يضمن... أن حكومة الجنوب ستكفّ عن دعم عملائها في جنوب كردفان والنيل الأزرق وحركات دارفور التي تتأهّب لحرب طويلة هدفها إسقاط الحكم في السودان وتنفيذ المخطّط الصهيوني الذي يريد السيطرة عبر المشروع السياسي العنصري علي السودان ومسخ هُويَّته وشطبها؟ كيف سيتم حسم الملفات الأكثر سخونة، مثل النفط وأبيي والملف الأمني؟، ولماذا كان التركيز على القضايا الأقل أهمية والإصرار على توقيع اتفاقيات إطارية في قضايا ظننّا أننا تجاوزناها ونستطيع تدبُّر أمورنا فيها؟ نحن نعيش عهد النسخة الثانية من نيفاشا، والتي ستكون طامة كبرى على البلاد نتيجة الرضوخ للضغوط والمجاملات وقلة حيلة المفاوض، مثلما كانت نيفاشا الأولى..