تحدثنا في مقال سابق عن موقف حزب منبر السلام العادل من السلام الذي هو أُس اسمه. وأكرر القول ههنا أن موقف الحزب من العملية السلمية برمتها اتصف بعاطفية مفرطة. وكنت أحسب أن الأخ الصديق الطيب مصطفى وحده هو «الجعلى» ثم رأيت سائر الحزب جعلياً ولا مذمة للجعليين فمناقبهم هي التي أعلت من شأنهم. ولا يذم الفتى أخواله لأن «الجَنا خال» ولكن سرعة النهمة في القول والكرم والغضب هي ما عُرف بصفته أظهر الصفات الجعلية حتى ظهر أثر ذلك فى من جاورهم فقال ود الفراش المصري الأصل السوداني القُح وجداناً وشعراً بدور أنهم بخيت للضيف عشية بدور قدحاً يكفي التُلتمية وأنهم من النهمة أي أريد أن أذبح «بخيت» والبخيت هو الكبش الذي يُذبح للضيف العابر. وهو بخيت رغم أنه يُذبح لأنه يُتفاءل به، وأما البيت الثاني فلا يحتاج إلى شرح. فهو قدح الضيفان تمتد إليه عشرات الأيادي بل مئينها. أما حزب منبر السلام العادل فهو تجسيد للمشاعر الطيبة الخام ولكن السياسة ليست إلى ذلك بشيء. السياسة هي التدبير المحكم الذي لا يتأتى إلا بعد كبح العواطف الثائرة. وبسط مُحيا الهدوء والبشاشة لمن تحب ومن لا تحب. السياسة هي الفطانة في الفكر والكياسة في المنطق واللباقة فى القول واللياقة فى التصرف. لأنها احتيال على المُعقد المشتبك حتى تُحل عقده، وهي التفاف على العقبة الكأداء حتى تجد منفذاً. وهي المناورة والمداورة للخبِ المخادع حتى تخدعه كما أراد خداعك. السياسة ليست أن تعرف مقاصدك فحسب ولكنها معرفة سبيل الوصول إليها بأقل جهدٍ وأدنى تكلفة. ولكن البعض في منبر السلام العادل يريد أن يثب على معضلات السياسة وثباً وأن يخنق خصومه خنقاً. ولو استطاع ان يفعل فعلاً وحشيًا بحمزة رضي الله عنه لفعل. ولربما يُرضي بذلك قبيلاً ويشفي غليلاً ولكنه سيخالف المثل السوداني السائر «من فش غبينتو هدم مدينتو». وهذه الأيام منبر السلام العادل غاضب ينفث حمماً من غضبه على وفد التفاوض في أديس أبابا. ومن قبلها في نيفاشا التي أصبحت لديهم واحدة من جمار العقبة تُرجم بالحجارة قبل الزوال وبعده. وما يُغضب منبر السلام العادل التفاهم الابتدائي حول الانفتاح للحديث عن الحريات الأربع لمواطني الشمال والجنوب أو السودان وجنوب السودان. وهذا الموضوع لم يكن متن الحوار ولا جوهره في أديس أبابا بل جاء في سياق تحسين مناخ التفاوض بإبداء حسن النوايا من هذا الطرف والطرف الآخر.. وهو ليس مراجعة لأمر الجنسية فهو إنما يُفتتح على أساس التسليم بأن للجنوبي جنسية الجنوب وللسوداني جنسية السودان. ولا علاقة له بتوفيق أوضاع مواطني جنوب السودان المقيمين في السودان فهم لا يزالون أجانب منذ أن أصبحوا كذلك في التاسع من يوليو الماضي ويلزمهم توفيق أوضاعهم في دولة السودان وطنهم السابق. وتوفيق الأوضاع يعني الحصول على أوراق ثبوتية من سفارة بلادهم في الخرطوم والحصول على إقامة مسببة في دولة السودان. وأما الأخ الطيب ورهطه فلهم الحق أن يفترضوا سوء النية الدائم لدى باقان ووفده، ولدى سلفا كير وحكومته وبرلمانه، ولكن تعميم سوء النية على شعب بأكمله ليس إلا شعورًا يُمليه فرط الغضب. فشعب جنوب السودان لم يحرق سوق كونجو كونجو بل أحرقه سُوقة محرضون حرضتهم الحركة الشعبية شمالية أم جنوبية لا يهم. وما بدا من تصرفات عدائية غوغائية تجاه الشماليين من قبل الدهماء والخبثاء واللُعناء لا يجب أن يعمَّم على كل شعب جنوب السودان ليكون ذلك مبرراً ومسوغاً لمبادلتهم الكراهية والشنآن والبغضاء. فليس من الحكمة في شيء استعداء شعب مجاور بأكمله. ولكن هذا لا يعني أننا نوافق أو أن وفد الحكومة قد وافق على تبادل منح الحريات الأربع بين السودان وجنوب السودان فوراً. فهذا الأمر سابق لأوانه وهو أمرٌ مختلفُ فيه جداً في أوساط الشعب السوداني وفي أوساط المؤتمر الوطني نفسه. ما وافقت عليه الحكومة هو بحث موضوع الحريات الأربع بروح إيجابية ترجو أن تتطور العلاقات حتى بلوغ ذلك الأفق. وإمكانية أن تكون الحريات الأربع هدفاً تطّرد باتجاهه خطوات تطبيع العلاقات ثم تحسينها ثم ترفيعها حتى تبلغ ذلك الشأو. فلا يتصور عقل ذكي متدبِّر أن تهرع الحكومة إلى منح ما تبقى من أبناء جنوب السودان في السودان الحريات الأربع بمجرد التوقيع على الاتفاق الإطاري أو حتى على معاهدة بذلك المعنى. فإن العلاقات بين البلدين قد دخلت فضاء العلاقات الدولية ولا يجوز لمجلس الوزراء أو الرئاسة إبرام معاهدة ما سواء كانت بأهمية «الحريات الأربع» أو أقل أهمية دون مصادقة البرلمان. وفي أحيان كثيرة إذا كانت المعاهدة مما تشتجر فيها الآراء وتتباعد فيها المواقف قد يذهب الناس إلى الاستفتاء العام المنصوص عليه في الدستور الانتقالي بصفته إحدى الوسائل التشريعية المهمة. فالحديث المنفعل عن الحريات الأربع إنما تغذيه مناخات الاحتراب الجاري الآن على الحدود. ولغة العنف المتبادلة بين الدولتين فضائياً واسفيرياً. كما يغذيه واقع احتضان حكومة الجنوب حتى اللحظة الراهنة لما يسمى بالجبهة الثورية احتضاناً أيدولوجياً وتمويلياً وعملانياً، ولذلك فالخطوة الأولى هي نزع فتيل الاحتراب واحتمالات توسعه من خلال سحب الفرقتين التاسعة والعاشرة التابعة لجنوب السودان واللتين تقاتلان الآن إلى جانب حركة عبدالعزيز الحلو بل هما حركة عبد العزيز الحلو نفسها. فهو لا يملك إلا تلك القوة التي توفرها هاتان الفرقتان. وإذا كان لمسيرة الألف ميل نحو تحسين العلاقات ثم ترفيعها تبدأ بخطوة واحدة فتلك الخطوة الواحدة هي نزع سلاح المتمردين أو الجنود السابقين من أبناء جبال النوبة وتخييرهم بين العودة الطوعية أو اللجوء سلمياً لدولة جنوب السودان. والخطوة الثانية هي إكمال ترسيم الحدود بين البلدين فلا معنى للحديث عن علاقات المواطنة وما يتاح للمواطنين من كل بلد في البلد الآخر وما لا يتاح لهم قبل رسم الحدود ليعرف كل مواطن البلد الذي ينتمي إليه وله فيه حقوق الجنسية الكاملة والبلد الذي لا يتنمي إليه، ولكن تطور علاقات الجوار الحسن قد يرفع درجة العلاقات إلى مرحلة الدخول بالبطاقة أو العبور الحدودي للقبائل الحدودية بمجرد الإخطار أو حتى الحريات الأربع جميعاً أو جلها أو بعضها. ولابد أيضاً من الاتفاق على خارطة طريق لحل معضلة أبيي تستند إلى بنود البرتكول الموقع بين الطرفين بعد أن أوضح التحكيم الدولي حدود المنطقة الإدارية وأول الخطوات في ذلك الاتفاق عبر «الأوجوك» على استكمال الترتيبات الإدارية والأمنية التي تلي تلك الترتيبات الإدارية. وأن يجرى الحوار حول وضع أبيي بروح التعايش والتكامل دون أن يعني ذلك التفريط في حقوق مواطن واحد في تلك المنطقة الملتهبة. إن جنوب السودان الدولة وكذلك دولة السودان في حاجة إلى بداية جديدة هادئة للتفاوض حول الحلول التي تمكِّن كل دولة من تفادي المصاعب التي يصنعها كل طرف للطرف الآخر. فبدلاً من ذلك يمكن لكل طرف أن يساهم في تذليل المصاعب التي تعترض سبيل الطرف الآخر. ولا يهم الخلاف السياسي والأيدولوجي فقد أثبتت التجارب جميعاً أن تدخل أي بلد في سياسة البلد الآخر ومحاولة أي بلد فرض أيدولوجية على البلد الآخر قد انتهت بالخسائر الفادحة على كل الأطراف. ودونكم ما جرى في أفغانستان مع الاتحاد السوفيتي وما يجري فيها الآن مع أمريكا وحلف الأطلسي. والحديث عن الحريات الأربع سابق لأوانه وكذلك الغضب على التفكير في منحها أو منعها هو أيضاً سابق لأوانه. وعندما تغلق مزاليج مراجل الحرب النارية والكلامية وعندما تدُبر الدبور وتهب نسمات الصبا الباردة فحينئذٍ يمكن الكلام عن الحريات الأربع. فمن من الناس يفتح الباب لمن يحمل سيفاً؟ إنما تُفتح الأبواب لمن يحمل زهرة. وأما رأي العبد المذنب الذي هو أنا فقد صرحتُ به مراراً وتكراراً. نحن لا نحتاج أن نقفز فوق المراحل فالبون بين البلدين والشعبين في الوقت الراهن بون واسع اجتماعياً ثقافياً ونفسياً. وما لم نفلح في تجسير هذه المسافة الواسعة فلا معنى للحديث عن الوحدة من باب الاتحاد أو من باب الحريات الأربع. وقد فتحنا الباب الشمالي فلننظر ماذا سيحدث. وما إذا كان ذلك سيزيدنا قوة كما نعتقد أم سيقودنا إلى تبعية وضعف كما يتخوّف المتخوفون. فلئن كانت الحريات الأربع مجازفة فليس من حُسن السياسة أن تفتح البوابة الشمالية والبوابة الجنوبية في آن واحد. وأما الهدف فهدف نبيل لا يماري فيه أحد ولكن فليتريث المتعجلون وليهدأ المخالفون فلم تنكسر الجرة ولم ينسكب ماؤها بعد. انتهى...