أتابع سلسلة مقالاتي «ومن تكلم في غير فنه أتى بالعجائب» يوم الأحد غداً إن شاء الله.. لأقف في هذا المقال مع أهل القرآن.. وما أجمل العيش مع أهل القرآن!! قبل أيام تم إعلان نتيجة مرحلة الأساس بولاية الجزيرة، وأعلن أن مدرسة «أبي بن كعب» القرآنية بود راوة قد حققت المركز الأول على مدارس الولاية بنسبة نجاح بلغت «100%» ونسبة تحصيل بلغت«85.9%» ، وقد سعدت بهذا الخبر كثيراً وتابعت وأنا خارج السودان تفاصيل نتيجة هذه المدرسة، مع أني لم أفاجأ بتحقيق هذه المدرسة لهذا المركز على مستوى ولاية الجزيرة، فقد زرتها عدة مرات في السنوات الماضية ورأيت ما سررت له، ووقفت على جوانب عديدة هي من جوانب التميز في المؤسسات التعليمية الموفقة، وفي مقالي هذا أحاول أن أعرض بعض الخواطر التي رأيت أن اطلاع الإخوة والأخوات القراء بمختلف مستوياتهم مهم للإفادة منها، وقبل ذلك فإني أكتفي في التعريف العام بهذه المدرسة بما قيل في المؤتمر الصحفي الذي تم فيه إعلان النتيجة. المدير العام لوزارة التربية والتعليم بولاية الجزيرة الأستاذ محمد إبراهيم قال: « هناك أمر لابد أن نذكره وهو جدير بأن يذكر هنا، مدرسة «أبي بن كعب» القرآنية بود راوة أول عام لها في امتحانات شهادة الأساس وجلس للامتحان «32» طالباً وكلهم حفظة لكتاب الله عز وجل مع ذلك أحرزت المرتبة الأولى في الولاية بالنسبة للمدارس». وقالت وزيرة التربية والتعليم بولاية الجزيرة د.نعيمة محمد عبد الله الترابي: « إن هذه المدرسة حطمت الرقم القياسي وأحرزت نسبة نجاح عالية في مادة اللغة الإنجليزية والرياضيات في حين أن نسبة النجاح للإنجليزي «57%» والرياضيات«66%» بالولاية». ثم قالت: «إنني وضعت لهذه المدرسة حجر الأساس للمدرسة الثانوية القرآنية وهي أول مدرسة ثانوية قرآنية على نطاق السودان» ولما سئلت من قبل الصحفيين بالمؤتمر عن ارتفاع التحصيل لهذه المدرسة أجابت بأنها تعزو ذلك لحفظ هؤلاء الطلاب للقرآن الكريم. وفي المؤتمر الصحفي أشاد الأستاذ محمد الكامل فضل الله وزير التخطيط ونائب الوالي بمدرسة «أبي بن كعب» القرآنية بود راوة وقال: «لابد أن نعمم هذه الفكرة وأنا أول منفذ لها إن شاء الله في بلدي». كما أشاد والي ولاية الجزيرة البروفيسور الزبير بشير طه وأكد على تعميم فكرة المدارس القرآنية بالولاية. هذا مما ذكر في المؤتمر الصحفي الذي أعلنت فيه النتيجة، وقد أحببت أن يكون ما نقلته هو مدخلي لرسائلي التي أرسلها في هذا المقال من خلال هذا الحدث الكريم: الأولى: جميع طلاب الصف الثامن بهذه المدرسة الذين جلسوا للامتحانات هذا العام وحققوا المركز الأول لمدرستهم على مستوى الولاية هم «حفظة لكتاب الله» نعم، يحفظون كتاب الله تعالى ويحسنون ترتيله وتجويده وكل واحد منهم يصلح لأن يكون إماماً لأحد الجوامع الكبيرة يؤم المسلمين في صلاة التراويح، وقد استمعت لبعضهم فقراءاتهم مميزة وبالإمكان أن ينافس الكثيرون منهم كبار القراء على مستوى السودان أو العالم الإسلامي، فهنيئاً لآباء وأمهات هؤلاء التلاميذ الموفقين، وهنيئاً لمدرسيهم وهنيئاً للقائمين على هذه المدرسة بهذا الإنجاز وهذا التوفيق، وهم بذلك يرسلون رسالة تؤكد أن العناية بالقرآن هي من أسس التميز والنجاح، وأن حفظ القرآن الكريم هي من أول ركائز النبوغ، ولنا في سيرة سلفنا الصالح وأئمة المسلمين ما يؤكد ذلك بجلاء ووضوح، وهي رسالة في نفس الوقت توجه للمزهدين في القرآن الكريم وحفظه، ممن يدعون بلسان حالهم أو مقالهم أن القرآن يعيق من النبوغ في المواد الأخرى خاصة العلمية، وهو ادعاء خاطئ، يخطئه التاريخ والحقائق العلمية والواقع، ومما يوضح ما أقول أن نسبة النجاح في هذه المدرسة في مادة الرياضيات واللغة الإنجليزية والعلم في حياتنا والغذاء والصحة والعالم المعاصر كانت نسبة عالية وجاءت الإشادة بها في حديث وزيرة التربية والتعليم. وإذا كان طلبة الصف الثامن الذين تخرجوا هذه السنة وعددهم «32» يحفظون القرآن الكريم، فإن بالمدرسة الآن في الصف السابع والسادس والخامس «33» طالباً هم من حفظة كتاب الله تعالى ومن المجودين له، وقد سررت لما زرت هذه المدرسة فوجدت أن الطلاب يخرجون في حصة القرآن الكريم لساحة المدرسة «تحت ظلال الشجر» ويكتبون على الألواح على طريقة الخلاوى.. بخطوط رائعة وإتقان جميل. كما أنهم يحفظون المتون العلمية في العقيدة والحديث والمصطلح وغيرها.. الثانية: هذه المدرسة «ناشئة» حيث تم تأسيسها في عام 2003م، وهذه الدفعة التي حققت المركز الأول على مستوى الولاية، هي الدفعة الأولى من التلاميذ المتخرجين من هذه المدرسة، وفي هذا درس عظيم، فالتميز لا يشترط له التاريخ الطويل ولا السمعة العريضة ولا الدعاية المكلفة، وإنما التميز بتميز الأهداف والوسائل والبرامج، وهذا ما أحسب أنه قد تحقق في هذه المدرسة الناشئة، وهي رسالة ترسل لكل من خطر بباله أن يقدم لدينه ومجتمعه وأمته ورغب أن يكون له إسهام في ذلك لكن إحساسه بأن ما يقدمه لن يكون كبيراً، ولن يكون له تأثير في الواقع، فقعد لأجل ذلك، أقول: إن تجربة هذه المدرسة التي كانت قبل أيام فكرة وحققت هذا التميز بتخريج أول دفعة لها لهو مما يشجع على الاقتداء بها، وأن يستعين بالله تعالى كل من رأى أن يسهم في إعمار لهذا المجتمع في جانب من الجوانب التي يحتاج إليها. الثالثة: إن عدد الطلاب البنين بمرحلة الأساس «352» طالباً وعدد الطالبات في الصفوف من الأول إلى الثالث «125» طالبة، والمجموع «477» طالباً وطالبة، فهل علم إخوتي وأخواتي القراء أن هذه المدرسة وإن كانت مدرسة خاصة إلا أن عدد الطلاب الذين تم إعفاؤهم من دفع الرسوم الدراسية عددهم «125» تلميذاً وتلميذة؟! أي ما يقرب من ثلث الطلاب.. وذلك لأنهم أيتام أو أبناء فقراء.. ويكفي هذا الجانب العظيم من جوانب التميز، لأن توفق هذه المدرسة لتحقيق المركز الأول على مستوى الولاية، وهي رسالة أرجو أن تفيد منها المؤسسات التعليمية الخاصة بأن تخصص منحاً لهذه الشرائح من المجتمع، بما يتناسب وأحوالها، وهذا من أفضل أسباب حصول البركة كما هو معلوم، وحتى الرسوم الدراسية فقد راعت هذه المدرسة أحوال أولياء أمور الطلاب فهي «300» جنيه للطالب في السنة كلها، وتشمل الزي المدرسي والأدوات المدرسية والكتب والكراسات، ويتم تسديدها بشكل قسط شهري قدره «25» جنيهاً. الرابعة: استوقفني وأنا أقرأ أسماء الفصول بالمدرسة أن أجدها تحمل أسماء: «موسى محمد موسى، العمدة عبد الله الحكيم، حمد الجاك أحمد، عبد الله الجاك ، يحيى محمد يوسف» وغيرهم، وعلمت أنهم أعيانٌ في تلك المنطقة، إذ اختارت إدارة المدرسة هذه الأسماء للوفاء لأصحابها، وهو درس جميل في الوفاء كما أنه درس طيب في «شمولية» رسالة مثل هذه المؤسسات ونظر القائمين عليها لكل الجوانب. الخامسة: صاحب فكرة ومؤسس هذه المؤسسة القرآنية التعليمية التربوية ورئيس مجلس إدارتها هو الأخ الفاضل الشيخ / محمد أحمد عثمان محمد علي، وهو «تاجر» يجلس في مكان عمل ويدير تجارته في سوق «السجانة» كغيره من التجار، لكن لم يمنعه ذلك من التفكير في مثل هذا المشروع ومن الإشراف عليه، ومن قيادته وتسييره، فهو لم يكن متخصصاً في التربية، إلا أنه نحسبه اتجه لهذا المشروع وزاده الإخلاص لدينه وللقرآن الكريم، ولمنطقته، والحرص على نفع الآخرين، نحسبه والله تعالى حسيبه مستعيناً بالله تعالى على هذا المشروع الذي يفاخر به أهل تلك المنطقة الآخرين، ثم مستعيناً بإخوته الأفاضل المميزين وكان بينهم الأستاذ محمد يوسف الجزولي المدير الحالي للمدرسة وإخوانه في إدارة المؤسسة والمدرسين والمدرسات.. وهذه رسالة لكثير من المتخصصين في التربية والتعليم للإفادة من خبراتهم وجهودهم والنفع بها للآخرين ونشرها والإثراء بها، وكم لدينا من المتخصصين من أصحاب الشهادات العليا في مجالات عديدة إلا أنهم رضوا لأنفسهم بالقليل، فكان عطاؤهم ضئيلاً، وجهدهم قليل، فحرموا أنفسهم وإخوانهم ومجتمعهم من الخير الذي يحتاجه الناس ويحتاجون إليه هم أنفسهم في ثماره المباركة في الدنيا قبل الآخرة. فهنيئاً لبلادنا بمثل هذه المدارس وبمثل هؤلاء الطلاب، وهنيئاً لهذه المدرسة وللقائمين عليها وللمنطقة، والموفق من وفقه الله.