المشكلة التي لم يستطع السيد مشلهت أن يجد لها حلاً تتلخص في أنه في يوم من الأيام وعندما كان شاباً كان نظره ستة على ستة فكان يرى النملة على الحائط وهو على بعد ميل ولكن عندما بلغ الخمسين وبدأ العد التنازلي لقدراته هبطت مروته تدريجياً فصار لا يرى الفيل على بعد مائة ياردة بل هو لا يستطيع أن يتبين ما اذا كان ذلك فيلاً أم صخرة.. وانخفضت مقدرته على التقاط الأصوات فالنملة التي كانت تمشي على الحائط كان يسمع دبيبها ووقع اقدامها أما الآن: ياولد أرفع صوت التلفزيون.. أو ياولد وطي صوت التلفزيون.. وذلك عندما يكون ممسكاً بسماعة التليفون.. وأصبحت تتكرر كلمات مثل ماشايف.. ماسامع.. ماقادر.. ماعايز.. ماطالع «عندما يكون أسفل السلم» مانازل «عندما يكون في الطابق الخامس» وهكذا.. على أن الأمر المقلق في كل تلك القدرات المتضعضعة أمر يتعلق بالدبابيس.. نعم الدبابيس جمع دبوس ذلك الذي يأتي مع القمصان الجديدة والملابس الجاهزة بعد اخراجها من صناديقها. وقد ظل السيد مشلهت يتساءل بصوت خافت ورويداً رويداً أخذ ذلك الصوت يرتفع وهو يقول: - يا أخي الناس العملوا مصانع للملابس الجاهزة.. مالقوا إلا الدبابيس الإبرة عشان يدبسوا بيها القمصان دي؟ والله حكاية عجيبة. في الأيام التي تفتح فيها العمرة أبوابها كان باب شقته يفتح لاستقبال معارفه ومعارف معارفه من المعتمرين.. وبما أن البساط احمدي فان الرجال يتجمهرون في الصالون والنساء يتخذن مجالسهن في الداخل.. وبالنسبة لكل معتمر ومعتمرة فإن اجراءات العمرة وأداءها لا تستغرق زمناً طويلاً.. ولكن الذي يستغرق زمناً طويلاً هو التردد على الأسواق.. فالجميع يحملون قوائم طويلة.. ولذلك تبدأ رحلة الصباح لتنتهي في المساء في شكل أكياس وأكياس محملة بالأغراض المختلفة. والجميع قد فطنوا إلى أن سلطات الجمارك في السودان لها حساسية مفرطة تجاه القمصان المطبقة داخل أوراقها وصناديقها وهي قد تغفر للمعتمر والحاج كل شيء بل وتمرر كل التايوتات واللاندكروزرات التي ربما يكون المعتمر قد أخفاها داخل أمتعته على اعتبار أنها للاستعمال الشخصي إلا أنها لن تغفر له قميصاً ملفوفاً داخل ورقته وبدبابيسه. ولذلك كان أول ما يفعله أي معتمر أن ينزع القميص من داخل صندوقه وأوراقه ثم ينزع عنه تلك الدبابيس التي تكون في الأكمام والأطراف وواحد يختبيء خلف ياقة القميص ومعه قطعة بلاستيك صغيرة تشد من أزر تلك الياقة وتجعلها تقف شاهداً على أن ذلك القميص غير مستعمل. الأوراق والصناديق تلك تذهب للقمامة.. أما الدبابيس فانها تسقط على ذلك البساط الأحمدي وتبقى على الموكيت في غرفة الصالون.. ومن هنا تبدأ متاعب السيد مشلهت.. فبعد أن تقلصت قدرته على الإبصار أصبح لا يستطيع رؤية تلك الدبابيس وهي قد التصقت بألياف الموكيت.. في كل مرة كان يحس بشيء قد طعنه في رجله يقف ليتفقده فإذا به يعثر على دبوس صغير من تلك الدبابيس التي كانت تدبس القمصان.. فيحاول اخراجه وتخليصه من الموكيت فإذا بالدبوس يتشبث بخيوط وألياف الموكيت كأنها أمه. والغريب والمحزن في الأمر أنه كان لا يرى ذلك الدبوس إلا بعد أن يطعنه.. فأخذ السيد مشلهت يعيش في رعب حقيقي. لقد اعتاد الناس أن يخلعوا أحذيتهم وهو يتجولون داخل الشقق وقد اكتسب هو هذه العادة بعد أن اغترب. ولا يستطيع أن يتخلى عنها الآن بعد أن عاش مشاعر متضاربة في البداية عندما يقوم بزيارة أصدقائه ومعارفه فكان يدخل في صراع.. هل أصحاب هذه الشقة من الذين يخلعون أحذيتهم أم لا.. ؟ أحياناً كان يخلع حذاءه فكان صديقه صاحب الشقة يحلف عليه ألا يخلع حذاءه. وأحياناً كان يحتفظ بحذائه بينما جميع الذين في الشقة قد خلعوا أحذيتهم.. فتغمره موجة من الإحراج الشديد.. الا أنه في النهاية حسم قضية الخلع واللاخلع لصالح خلع الحذاء وواظب على ذلك.. ولم يكن يحسب حساباً للدبابيس التي استعصت عليه رؤيتها بعد أن شارف الخمسين من العمر. والآن وقد تحول إزعاج تلك الدبابيس إلى كابوس حقيقي.. أصيب مشلهت بحالة مستعصية من الفوبيا أو «الخوف من الدبابيس» فيما أصبح يعرف علمياً بدبوسوفوبيا ودخل ذلك المرض أروقة الطب النفسي كأحد الأمراض الخطيرة والتي تتطلب معالجتها جلسات وجلسات وربما تنويماً مغناطيسياً وطعنات بالدبابيس بدلاً من الجلسات الكهربائية.. لكي يتعود الشخص المصاب عليها فيخرج من تلك الحالة وهو أشد حباً وتعلقاً بالدبابيس. وقد استفحل ذلك المرض في السيد مشلهت لدرجة أنه كان عندما يدخل إلى صالون شقته «يباري» الجدران وهو على أطراف أصابعه.. ولا يقدر على السير وسط الصالون مهما كانت الأحوال.. ولذلك وضع التليفون بالقرب من الحائط وطفايات السجاير والراديو حتى يسهل عليه الوصول إليه وإذا حدث أن رأى أحداً من أطفاله يتجول حافياً يصرخ صرخة مدوية ويصاب بإغماءة لا يفيق منها إلا بعد مدة طويلة.. وعندما اشتدت عليه وطأة المرض أحضر عمالاً قاموا بوضع كل أثاث الصالون في منتصف الغرفة.. في المكان الذي يعتبره ذا كثافة دبابيسية عالية بينما جعل على الجدران ممرات آمنة يسير عليها.. تماماً مثل بعض مدن البوسنة والهرسك أيام الحرب.. واعتبر أن تلك الممرات مناطق منزوعة الدبابيس.. كل ما أصبح يأمل فيه أن يصل إلى اتفاق مع أهل العمرة ألا يلقوا بالدبابيس في تلك الممرات الآمنة.. فنظره ضعيف جداً بعد الخمسين. آخر الكلام: دل على وعيك البيئي.. لا تقطع شجرة ولا تقبل ولا تشتر ولا تهد هدية مصنوعة من جلد النمر أو التمساح أو الورل أو الأصلة أو سن الفيل وليكن شعارك الحياة لنا ولسوانا. ولكي تحافظ على تلك الحياة الغالية لا تتكلم في الموبايل وأنت تقود السيارة أوتعبر الشارع. وأغلقه أو اجعله صامتاً وأنت في المسجد.