إن أهم وأعظم وأول محاور الإستراتيجية الإسلامية هو الإنسان.. وهكذا يجب أن يكون الحال في كل الرؤى الإستراتيجية .. الإسلامية وما عداها. فالإنسان كل الإنسان مكرم في الإسلام.. بسبب إنسانيته لا بسبب الانتماء العرقي أو الديني. فالإنسان هو موضوع الهداية في كل الكون.. الإنسان دون سواه من الكائنات. والله جل وعلا يمتن على الإنسان بكفالة رزقه وأمنه وذلك كله رعاية وإعداد لأن الإنسان هو المنفذ الأول والأخير للإستراتيجية الإسلامية والتي ليست فقط شاملة.. بل هي دائمة ومستمرة. ومركزية الإنسان في هذه الإستراتيجية تنبع من أن العناية الإلهية والتي هي سر أسرار الإستراتيجية لا تعمل إلا من خلال الإنسان ليس فقط من خلال علمه وخبرته ودربته ولكن من خلال تدينه وعلاقته بربه. والعناية الإلهية تعمل من خلال العبادات والطاعات ومخافة الله والذكر ومراقبة الحق في كل صغيرة وكبيرة. لقد دلت التجارب على أن مفعول الذكر في الزراعة والصناعة والتجارة والمطعوم والمشروب قابل للقياس المعملي والمعيارية التجريبية. لذلك يظل المكون الأساسي والرئيسي في إستراتيجية الإسلام هو المكوِّن المتعلق بالأمن: الأمن من الجوع والأمن من الخوف.. وهكذا كان يجب أن يكون الحال في كل الإستراتيجيات.. وإلا كانت عبثاً وتخليطاً.. ومهما حققت من نجاحات فهي تكون دون الحلم الإنساني الكامل الذي يشمل البُعدين المادي والروحي ويشمل الأمنين: الأمن من الجوع والأمن من الخوف والذي يؤدي إلى تحقيق سعادة الدارين.. إن مفهوم الأمن هو من أعظم مكونات الإستراتيجية على أن مفهوم الأمن ذاته مشوش ومعطوب عند أهل الإستراتيجيات العلمانية فالأمن عندهم هو الأمن الحسي والشكلي والخارجي ولا شأن لهم بالأمن الروحي والأمن النفسي والأمن الداخلي الناتج عن الاطمئنان وعن الرضا وعن القناعة.. وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون» اولاً كانت تلكم القرية آمنة مطمئنة.. وكان رزقها يأتيها ميسراً موفراً من كل مكان.. وحكوا بما يقارب الإجماع أن القرية مكة والخبر أصدق فيها مما هو في غيرها من حيث يجيء الرزق إليها مع الحجاج ومع التجار، ومن حيث الأمن الذي يحققه الحرم الآمن الذي جعله الله آمناً ويتخطف الناس من حوله. ونظرية الأمن في الإسلام أعم وأشمل من كل نظريات الأمن عند الشعوب والأمم. قال تعالى «وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون إنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطاناً فأي الفريقين أحق بالامن إن كنتم تعلمون. الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون. وتلك حجتنا آتياها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم. ونكرر أن أهم مكونات المحور الإنساني في الإستراتيجية الإسلامية الشاملة والدائمة والمستمرة هي مكوِّنات الهداية والأمن. والأمن الذي تقصده هو الأمن الغذائي أولاً ثم الأمن العام على النسل والعقل والصحة والدين والممتلكات. إن مكونات الإستراتيجية الإسلامية ليست مكونات اجتهادية ولا جدلية بل هي نصوص ثابتة وراسخة بل وتعبدية.. كقوله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: «أيها الناس إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا وكحرمة شهركم هذا» وفي رواية كحرمة بلدكم هذا وقوله صلى الله عليه وسلم :«لا يحل مال امرئ مسلم إلاّ بطيب نفس منه» وقد بلغت الحرمة أنه لو أخذه منه على سبيل الإحراج فهو حرام. وهذا مستوى من الأمن تقصر عنه إستراتيجيات الدنيا كلها.لذلك فإن القول يصدق بأن الإستراتيجية الإسلامية ليست خمسية ولا عشرية ولا ربع قرنية ولكنها دائمة ومستمرة.وكما أنها شاملة لكل نشاطات الحياة الزراعية والصناعية والتجارة والسياسة والأخلاق والتربية والأسرة والحرب والسلام، صحيح أن لكل مجال من هذه المجالات خصوصيته ولكن هناك عاملاً مشتركاً بين كل هذه المجالات وهو سر أسرار الإسراتيجية وهو العون الإلهي الذي يتحقق فقط بتوجه الإنسان الكامل إلى الله سبحانه وتعالى بالعبودية والعبادة وبالطاعات وبالذكر وبالدعاء وبكامل التوكل.. كل ذلك دون إسقاط الأسباب ولا إهمال العمل لأن الأخذ بالأسباب وإتقان العمل هو من أسباب النجاح وفي الحديث: «إن الله يحب أحدكم إذا عمل عملاً أن يتقنه». وأيضاً:«إن الله كتب الإحسان على نفسه» إن المكون الأول هو المكون الأساسي والرئيسي في الإستراتيجية الدائمة وهو في الواقع المكون الأساسي والرئيسي في كل الإستراتيجيات وهو ضروري إلى درجة أن أية إستراتيجية بغيره لا تكون إستراتيجية ولكنها تكون محاولة عبثية مهما حققت من نجاحات مادية فهي قطعًا تقصر دون الحلم الإنساني الكامل الذي يشمل البعدين المادي والروحي من حياة البشر والذي يحقق السعادة في الدارين. إن سعادة الدارين هي أحد مطلوبات الإستراتيجية الإسلامية بل هي المطلب الأكبر والأسمى والأعظم مع اختلاف معروف ومقرر عند أهل العلم بين سعادة الدار الأولى وسعادة الدار الآخرة. فإذا اتفقنا على محور الإنسان جاز لنا أن نتقدم إلى محور آخر وهو عمارة الأرض. عمارة الأرض إن عمارة الأرض هي ناموس كوني فرضه الله سبحانه وتعالى على بني آدم.. وهي في ذات الوقت «تكليف رباني لا تقوم حياة الإنسان على ظهر الأرض إلاّ به». «قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب». وقوله استعمركم أي طلب منكم عمارتها. وقال تعالى: «هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور» وقوله ذلولاً أي موطأة وممهدة وميسرة.. وقوله فامشوا أمر يُفهم منه الطلب على وجه الإباحة.. وكذلك قوله وكلوا وأشربوا يفهم منه الطلب على وجه الإباحة.. ولكن إذا كانت الحياة قائمة على الأكل والشرب ولا يتسنى الأكل والشرب إلا بالمشي في مناكبها واستغلال كنوزها وزروعها وثمارها ومياهها واستخراج ثمرات كل ذلك.. فعند ذلك يكون المشي في مناكبها تكليفاً ويكون الأكل والشرب لحفظ الرمق تكليفاً. قال تعالى: «يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين». «يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين» وقال تعالى «فكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيباً واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون» ومن العجيب أن عمارة الأرض لم تجعل للإنسان وأنيط به اداؤها من أجل الطعام والشراب والسكن وحده بل إن الأمر لغاية أكبر من ذلك وهي الخلافة العامة. الخلافة: لقد جُعل الإنسان خليفة على الأرض وجاء النص واضحاً:«وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة» وكان هذا إبلاغاً للملائكة وإعلاماً لهم بأن الله سيجعل على الأرض خليفة مع أن الملائكة مخلوقات خُلقت للطاعة «لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون».ولا مجال لأن يقال إن هذا البلاغ كان من باب الشورى تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. ويبدو أن ردهم كان بمقتضى علم سابق إذ قالوا: «اتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك». فجاء البيان شافياً وقاطعاً «قال إني أعلم ما لا تعلمون» والخلافة في الأرض خلافة تكليف وتشريف وعلى التكليف والتشريف تؤسس الإستراتيجية الإسلامية الشاملة الكاملة والتامة العامة الدائمة المستمرة. «هو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور بهم» جعل الإنسان كله جنس الإنسان خليفة في الأرض وشرفه بهذا وجعل التشريف درجات. وهذا التشريف يصحبه ويلازمه تكليف.. وكلا التشريف والتكليف للإنسان كله مسلمه وكافره.. وكل ذلك ابتلاء للإنسان «ليبلوكم فيما آتاكم» وعندها تتمايز الدرجات ويعلو بعضهم فوق بعض. وينتقل الإنسان عندها من الخلافة العامة إلى الخلافة الخاصة والخلافة الخاصة هي خلافة التمكين وهو وعد من الله غير مكذوب وهو حين يتحقق يكون الإنسان المسلم في أتم استعداده لتنفيذ الإستراتيجية القرآنية الشاملة.