ذات مرة زرت عمي الجزولي عبد الله الفكي عيسى الناير، فجلس لمدة طويلة وهو مطرق ينظر إلى الأرض ويردد قول الشاعر: بكيت على الدنيا وطال تأسفي فيا عين أبدلي الدمع بالدم ثم رفع رأسه وقال: «يا محمد يا ولدي لماذا أخرجتم الإنجليز من السودان؟». فقلت له: «أنا لم أحضر زمن الإنجليز يا عم الجزولي؛ ولكن لماذا كل هذا الأسف على خروج المستعمر؟ فرد: «الإنجليز صحيح ناس أهل كفر ولكن كان عندهم عدل واهتمام بالناس ومعيشتهم وأحوالهم وما يضيعوا الحق أبداً؟ فسألته كيف ذلك؟ قال: «لقد زارنا في يوم من الأيام مستر بن مفتش بارا وجلس في نفس المكان الذي تجلس فيه الآن، وطلب مني دفع «الطُلْبَة» «الضرائب»، فقلت للمترجم كلّم الخواجة وقل له إن هذه السنة «محل» وما عندنا عيش ولا قش، ولذلك لم أجمع قروش الحكومة من الناس لأنهم محتاجون للدعم، فشرح له المترجم ما قلت، فما كان منه إلا أن قطع جولته فوراً وعاد إلى بارا، وبعد أسبوع أرسل للقرية ثلاثين جملاً محملة بالدخن، ففرح الناس وقضوا باقي تلك السنة في أمان حتى جاء الخريف، فمن الذي يفعل هذا في هذا الزمن يا محمد يا ولدي؟». قلت له: هذا العيش لم يأت به الخواجة من بريطانيا؟ فرد بقوله: «المسألة ليست كذلك ولكن انظر إلى سرعة التصرف والاستجابة لحاجات الناس، هذا هو الفرق». تعلمت من ذلك الموقف أن على المسؤول أن يستجيب لطلبات الجمهور بأسرع فرصة ممكنة، وبالطريقة التي من شأنها أن تحل مشكلاتهم، بغض النظر عن كل الظروف ما دام الأمر يتعلق ببقاء الإنسان على قيد الحياة. وما جعلني أورد هذه القصة ما يجري الآن في شمال كردفان من مأساة حقيقية باتت تهدد الإنسان والحيوان، نظراً للنقص المريع في الذرة والعلف، مع غياب شبه تام للسلطات المعنية بهذا الشأن الإنساني الحيوي والضروري. وما فائدة أو لزوم أية حكومة أو قيمتها إن هي لم توفر الغذاء والأمن لمواطنيها، على الأقل بالقدر الذي يمكنهم من البقاء في قراهم وأرضهم حتى لا يتعرضوا للنزوح وما يصاحبه من هزات اجتماعية قد تمس أعراضهم وقيمهم وأخلاقهم لا قدر الله. في خلال الأسابيع الماضية كشف النائب البرلماني عن محلية بارا مهدي عبد الرحمن أكرت للصحافيين عن موجة جفاف وتصحر ضربت المنطقة لثلاثة مواسم متتالية، وأدت إلى وجود فجوة غذائية وعلفية، متوقعاً فقدان المواطنين لأكثر من 50% من ثروتهم الحيوانية التي بدأت تتجه جنوباً بحثاً عن الكلأ، وأردف: «حذرنا الحكومة المركزية كثيراً من تجاهل الفجوة الغذائية والعلفية لكنها حتى الآن لم تقم بأية تحوطات لتدارك الأزمة، مما يعني أن هنالك تجاهلاً تاماً للقضية»، وأتهم أكرت الحكومة بالانشغال بالقضايا السياسية في وقت تهمل فيه قضايا الانسان والمواطن، وتابع: «كل محاولاتنا باءت بالفشل، لكننا سنواصل ضغوطنا على الحكومة المركزية لأنها بنص الدستور هي المسؤولة عن مثل هذه الكوارث». قد أتفق مع السيد النائب على مسؤولية الحكومة المركزية، وأقول رضي الله عن الفاروق عمر القائل: «لو عثرت بغلة في العراق لسألني الله تعالى عنها لما لم تسو لها الطريق يا عمر؟» . ونحن هنا نتحدث عن أطفال ونساء يتضورون جوعاً والحكومة الاتحادية غافلة عنهم، وحكومة الولاية كما يقال: «لا في العير ولا في النفير»، فهي أعجز من أن توفر الغذاء لمن أدلوا لها بأصواتهم. أخبرني أحد الإخوة الذين على صلة بدواوين الحكم بأن إدارة المخزون الاستراتيجي قد جادت على هذه الولاية المنكوبة بكمية من الذرة، ولكن ما حجم هذه الكمية يا ترى؟ ألف جوال عيش لمحلية يزيد عدد سكانها عن «180» ألف نسمة!! وسعر الجوال «137» جنيهاً، فمن يا ترى يستطيع أن يشتريه؟ وكم سيكون نصيب الفرد أو الأسرة؟ وهل هذا من الأمور التي يمتن بها على المواطن؟ وما دام الوضع كما ذكر فيا ليت الدستوريين في هذه الولاية يمارسون ثقافة الاستقالة من المنصب و لو على سبيل «الكشكرة» وفقاً لتلك السُنّة الحسنة التي سنها عبد الوهاب عثمان بوصفها بادرة تستحق الإشادة في تاريخ السياسة السودانية في سنوات الإنقاذ. بعض أهل شمال كردفان بدأوا الآن رحلة النزوح نحو المجهول، فمنهم من يمم صوب جنوب دارفور وشرقها بحثاً عن الماء والكلأ لإبلهم، وتعلمون الوضع الأمني في تلك المنطقة التي ضاقت حتى بأهلها، ومنهم من وصل إلى مشارف النيل الأبيض في محاولة لإنقاذ مواشيهم من الهلاك. ولو استمر الوضع على ما هو عليه فلن يجد السيد الوالي من يصوِّت له في الانتخابات القادمة، لأن شمال كردفان ستكون قد خلت من أهلها تماماً جراء النزوح إلى أطراف العاصمة والمدن الأخرى هرباً من الجوع والعطش والفقر، وسيسجل التاريخ كل شيء. لقد بات واضحاً أن هذه الولاية ليست لها «أم تبكي عليها» فقد ترك الناس هناك الحديث عن التنمية والتعليم والصحة فهذا حلم بعيد المنال، والأمر الآن أصبح في «تولا»! إزاء هذا الوضع هل يكفي أن يشكو أحد النواب عن تجاهل الحكومة لناخبيه؟ فيا أخي مهدي لم تفدك الدموع من قبل، وهأنت تشكو عبر الصحف، وشكونا قبلك لأعلى الجهات ومازال الحال لم يبرح مكانه، وكأننا لسنا من رعايا هذه الدولة؛ وأنتم نواب الشعب وممثلوه المنتخبون فلماذا لا تقدمون على خطوة أكثر جرأةً حتى تحفظوا ماء وجوهكم أمام أهاليكم على أقل تقدير؟ ويا مسؤولي ولايتنا وحكامها دعوا المكابرة وافتحوا المجال لمنظمات الإغاثة فإنها ستقدم الغذاء للناس بلا مقابل إلا المودة في الإنسانية، ومع علمنا التام بما يكتنف ذلك من مخاطر إلا أن للضرورة أحكام.