عاشت الخرطوم أمس يوماً استثنائياً، فقد رقصت طرباً وغاصت في دموع الفرح باسترداد مدينة هجليج على يد القوات المسلحة السودانية بعد سبعة أيام من القتال الضاري.. وبترقب يشوبه الحذر كان الشارع السوداني ينتظر بيان القوات المسلحة الذي تم التنويه به في أكثر من قناة وإذاعة سودانية، وبعد سماع البيان الذي أعلن من خلاله وزير الدفاع عبد الرحيم محمد حسين تحرير هجليج وانتزاعها من براثن العدو عنوةً واقتداراً بعكس ما قال سلفا كير الذي زعم أن قواته المعتدية انسحبت استجابةً لقرار مجلس الأمن الدولي، بعد سماع بيان التحرير خرجت ولاية الخرطوم بكل مدنها وأحيائها وأريافها وانتظمت في مسيرات هادرة استمرت حتى ساعة متأخرة من الليل ابتهاجاً بالنصر الذي حققته القوات المسلحة والمجاهدون، الأمر الذي أدى إلى شل حركة المرور تماماً في كل الطرق المؤدية إلى الخرطوم، حيث اتجهت المسيرات التلقائية إلى مقر القيادة العامة للقوات المسلحة بالخرطوم. صورة تلاحم تفوق الوصف الشعب السوداني الذي خرج بشكل تلقائي وبصورة لم يسبق لها مثيل من قبل، وبشكل يفوق حد الوصف، بدا وكأنه يريد بعث رسالة قوية تعبر عن حجم صدمة الاحتلال من دويلة يراها تائهة مستضعفة مازالت بحاجة للسودان لتقف على رجليها وهي تعض الأيدي التي امتدت إليها بالإحسان، ورسالة أخرى تستنكر مزاعم الحركة الشعبية وزعيمها سلفا كير بأن قواتها انسحبت من هجليج استجابةً لقرار مجلس الأمن الدولي القاضي بالانسحاب.. والسؤال الذي يفرض نفسه بقوة: هو ما الذي دفع حكومة الجنوب وقياداتها للحديث عن الانسحاب استجابةً لمجلس الأمن والأمم المتحدة الآن فقط؟ في حين أن سلفا كير قال للأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون عندما طلب منه الانسحاب من أول يوم إنه لن ينسحب، ومضى إلى استفزازه بالقول: «إنني لست عاملاً تحت إمرتك حتى تأمرني بالانسحاب». البحث عن طرف ثالث ويجيب على السؤال المطروح القيادي بالحزب الاتحادي الديمقراطي «الأصل» علي السيد، ويقول في حديثه مع «الإنتباهة» مساء أمس، إن الحركة الشعبية من خلال بقائها في هجليج كانت تسعى لتحقيق عدة أهداف استراتيجية، من بينها أنها تريد دفع المجتمع الدولي إلى التدخل في قضية الخلاف بينها وبين الخرطوم، وهو أمر ترفضه الحكومة السودانية التي تريد حلاً بعيداً عن التدخل الدولي، وأضاف أن قيادة الحركة تريد أن تقول إنها استجابت للمجتمع الدولي، وبالتالي تدفعه دفعاً للتدخل، ولتجعل له موضعاً في المفاوضات المقبلة. وقال السيد إن الحركة أعلنت مراراً أنها لا تفاوض إلا بوجود طرف ثالث، وهذا أمر لا تقبله الخرطوم. وأشار السيد إلى ضرورة أن تدخل الحكومة السودانية المفاوضات القادمة بجبهة وطنية موحدة وبموقف وطني موحد ومنسق حكومةً ومعارضةً، مؤكداً ضرورة أن تكون هناك رؤية وطنية موحدة قائمة على فتح الحوار الإستراتيجي مع كل القوى السياسية بالبلاد. سلفا كير يكذب الدكتور كمال عبيد القيادي بحزب المؤتمر الوطني الحاكم، قال إن سلفا كير كان يكذب على شعبه، أو أنه لا يعلم ما يقول، في إشارة إلى محاولاته تبخيس نصر القوات المسلحة بحديثه عن الانسحاب، وأشار عبيد إلى أن حديث سلفا كير وسلوكه لا يعبر عن سلوك رجل دولة، مشيراً إلى أن الحركة الشعبية غارقة في التخبط، وأن هذا التخبط يبين الطريقة التي تُدار بها دولة الجنوب، وأكد عبيد أن دولة الجنوب دولة غير راشدة. منبر السلام على الخط أما نائب رئيس حزب منبر السلام العادل الفريق إبراهيم الرشيد فقد أكد في حديثه ل «الإنتباهة» أن سلفا كير من خلال الحديث الذي أدلى به أمس كان يريد أن يقلل من الإنجاز العظيم الذي حققته القوات المسلحة التي قاتلت العدو خلال عدة أيام بصبر وحنكة وخبرة ووعي، مشيراً إلى أن خبرة الجيش السوداني ووعيه وحنكته تجلت في هذه المعارك في تلك المناطق التي تعج بآبار البترول وذات الأهمية الاقتصادية، وقال إن هذه المعركة لولا أهميتها في خريطة الاستثمار والاقتصاد ولولا استراتيجيتها، كان يمكن أن تنتهي في يوم واحد بدحر القوات المعتدية، إلا أن تلك الأسباب أجلت التحرير قليلاً، إذ لا يستقيم عقلاً أن تمكث قوات مثل هذه عديمة الخبرة أمام الجيش السوداني صاحب الحنكة والخبرة التراكمية وله أسلوبه في القتال كل هذه المدة، لو تلك الأسباب المُشار إليها. وقال الرشيد إن سلفا كير كان يتوقع أن تمكث قواته في هجليج ويستفيد من هذه الخطوة في تعزيز موقفه التفاوضي. وأضاف أن سلفا كير مهما قال فإنه يدرك تماماً أن قواته تلقت هزيمة نكراء، ويعرف كم حطم الجيش السوداني آلياته، وكم قتل له من الرجال، موضحاً أن مزاعمه بأن قواته انسحبت محاولة للتقليل من هذا الانتصار العظيم، وبعث رسالة خاطئة للعالم بأنه استجاب للمجتمع الدولي. ستة مكاسب ويقول الفريق إبراهيم الرشيد إن هناك ستة مكاسب تحققت للسودان جراء خطوة الهجوم تلك، أولها أن القوات المسلحة وجدت أن الشعب السوداني على مختلف مشاربه يقف سنداً لها، مما يحفزها للدفاع عن الأرض بصلابة، وثانيها أن القوات المسلحة حددت من هو العدو الحقيقي والاتجاه الذي سيأتي منه، وبات واضحاً أن الجنوب هو مصدر تهديد الأمن القومي السوداني. وأضاف قائلاً: أما المكسب الثالث فإن العالم كله أدرك أن دولة الجنوب معتدية، وأدان خطوتها تلك وطلب منها الانسحاب من أرض هجليج الشمالية. أما رابع هذه المكاسب بحسب الفريق الرشيد، فإنه أصبح من الواضح للمفاوض السوداني أنه يفاوض حركة لا أخلاق لها، وليست جديرة بالثقة فيها، وزاد قائلاً: أما خامس هذه المكاسب أن هذه الخطوة أتاحت للسودان ضرورة إعادة النظر في عقيدته القتالية بما يسمح باستخدام الضربة الاستباقية لقوات العدو التي تهدد الأمن القومي. لحظات فارقة في تاريخ الوطن قائد المنطقة الجنوبية الأسبق اللواء صديق البنا بعد أن قدم التهانئ الحارة للرئيس عمر البشير والقوات المسلحة والشعب السوداني، أشار إلى أن هذا الانتصار يمثل علامة فارقة من حيث التوقيت والأبعاد السياسية والأمنية على المستويين الإقليمي والدولي، وأشار إلى أن سلفا كير تحركه قوى أجنبية، وأنه يحاول تبخيس الانتصار العظيم لقوات الشعب المسلحة، ويزعم الانسحاب لحفظ ماء وجهه الذي أُريق، داعياً الشعب السوداني إلى أن يواصل وقفاته البطولية النادرة خلف قواته المسلحة، وإلى أهمية التلاحم الوطني في مثل هذه اللحظات الفارقة في تاريخ الوطن. من قلب المعركة وأكد شهود عيان من منطقة هجليج ل «الإنتباهة» أن القوات المسلحة والمجاهدين سلكوا يوم أمس طريقين نحو معركة التحرير الفاصلة، الطريق الشمالي الشرقي وهو طريق خرسانة هجليج، والطريق الغربي وهو طريق هجليج المجلد، على أن يكون التمركز في ماما وفاما، وقالوا إن القوات المسلحة حاصرت القوات المعتدية من الاتجاهين وقطعت عنهم الإمداد تماماً، وأضافوا أن قوات العدو واجهت حصاراً عنيفاً مما أدى إلى تحطيم روحها المعنوية لتجد نفسها خائرة ومتراجعة أمام الضربات الموجعة للجيش السوداني الذي زحف عليها فجر أمس بصورة شرسة وحاسمة. ويرى أكثر من مراقب سياسي أن انتزاع القوات المسلحة والمجاهدين هجليج عنوةً واقتداراً من قبضة القوات المعتدية له أكثر من بعد وأكثر من اتجاه ودلالة على الأصعدة المختلفة سياسياً واقتصادياً وأمنياً وعسكرياً، فعلى الصعيد العسكري انكسرت شوكة القوات المعتدية وذاقت وبال أمرها تدميراً لآلياتها وقتلاً وأسراً لأفرادها، أما على الصعيد السياسي فقد خسرت الحركة الشعبية رهانها على المفاوضات المقبلة من منطلق القوة وهي تمسك بورقة احتلال هجليج، وعلى الصعيد الاقتصادي الاستراتيجي فقد تسربت من بين فروج أصابعها ورقة النفط وكذا الحال على الصعيد الأمني، فقد خسرت قوات الحركة الشعبية البعد الأمني، حيث من المؤكد أن الخرطوم ستصنفها بعد هذه الخطوة على أنها أكبر مهدد للأمن القومي السوداني، مما يستوجب التعامل معها على أساس أنها العدو الحقيقي، الأمر الذي سيجر عليها كثيراً من الخسائر كما ستشهد الأيام القادمة.