لو كنتُ مديراً للقنوات السودانية (قناة السودان، النيل الأزرق، طيبة، الشروق، قناة الخرطوم، قناة أم درمان وحتى قناة ساهور) لعرضتُ صورة هجليج المزدهرة بمنشآتها النفطية بل وبمزارعها التي كانت تُنتج حتى العجور الذي رأيناه في برنامج أحمد البلال الطيب ولعرضتُ إلى جانب تلك الصورة الزاهية صورة أخرى لهجليج الأخرى بعد أن أحرقها المغول الجُدد وتركوها قاعاً صفصفاً تشتعل فيها الحرائق وينعق فيها البوم ولجعلتُ من تلكم الصورتين المتجاورتين مقدِّمة دائمة لنشرات الأخبار حتى يعلم شعب السودان عدوهم الإستراتيجي وحتى نُبقي جذوة التعبئة على أشدها وحتى يعلم الجميع مقدار الحقد الذي ينطوي عليه أولئك الأوباش. والله العظيم لم تزد تلك الصور من قناعاتي حول ما تمتلئ به قلوب أولئك الناس من حقد دفين كنا نتحدث عنه منذ سنوات فقد كنا نعلم منذ تمرد توريت 5591 قبل استقلال السودان حيث كانوا يستكثرون أن يخسروا رصاصة في قتل رضيع إذ كانوا يقذفونه إلى أعلى ويستقبلونه بالسونكي ليمزق أحشاءه وكانوا يبقرون بطون الحوامل وكانوا وكانوا وكانوا.. ذلك الحقد الدفين الذي لا يزال بعضُ من شاهدوه أحياء يُرزقون في أم دوم وغيرها هو الذي احتفلت بذكراه بل أحيت ذكراه الحركة الشعبية بعد أكثر من خمسين عاماً في أعقاب توقيع اتفاقية الشؤم المسمّاة بنيفاشا وجعلوا منه عيداً قومياً يُحتفل به كل عام في توريت حيث مقابر شهدائنا الأبرار وفي غيرها من مدن جنوب السودان بما فيها جوبا.. يحتفلون بأول مذبحة تطهير عرقي تطول الشماليين ويكرمون من ارتكبوا تلك المجازر في حق أبناء الشمال!! مشاهد من الحقد الدفين تكررت خلال مسيرة الدماء والدموع التي فرضها علينا المستعمِر الإنجليزي اللئيم حين زرع تلك الشوكة السامّة في خاصرة السودان ووحَّد بين الزيت والنار حتى يُغرقنا في أتون تلك الحرب المجنونة التي لا نزال نعاني من تداعياتها.. مشاهد شتى لعل أبرزها في ذاكرة سكان الخرطوم انفجار أحداث الإثنين الأسود عقب مصرع قرنق في نهاية يوليو 5002 والتي كشفت للشعب السوداني كيف تمدَّد الورم السرطاني وانتشر في الجسد السوداني من أحراش الجنوب في توريت وأنزارا ومريدي وغيرها عام 5591 إلى قلب الخرطوم بعد خمسين عاماً من الحريق الأول... بالله عليكم أليس من حق شهداء توريت علينا أن ننقل مقبرتهم التي أكرمني الله بزيارتها مع كلٍّ من الشهيد إبراهيم شمس الدين والفريق أول عبد الرحيم محمد حسين عقب الغزو اليوغندي في 8991؟ أليس من حقهم علينا أن نُنقذهم من الاحتفالات المجنونة التي تُقام نكاية بهم كل عام حيث لا أحد يمكن أن يتخيل ما يفعله بهم أولئك الحاقدون؟ هل تعلمون أن أبيل ألير نائب الرئيس نميري نقل رفاة ابنته من الخرطوم إلى دولة جنوب السودان بعد الانفصال؟! أردتُ أن أقول للذين استغربوا ما فعل هؤلاء بهجليج ومنشآتها النفطية حتى يوقفوا تدفق بترول السودان وشعبه الكريم بالرغم من أن السودان هو الذي سلّمهم منشآتهم النفطية سالمة بعد أن استخرج لهم بترولهم كما ظلَّ يفعل طوال تاريخه وهو يحمل الجنوب على ظهره ولا يتلقّى منه غير طعنات الغدر والخيانة والحقد الأعمى.. أقول لهؤلاء إن عليهم أن يتذكروا على الدوام أن الجنوب لم يكن أرضاً سودانية ووطناً لأبناء الشمال إلا مجازاً وأماني يدرسها التلاميذ في المدارس بل كان ورماً سرطانياً لم يقرِّر أبناء الشمال كما لم يقرِّر أبناء الجنوب توحيده مع الشمال إنما قرر ذلك الإنجليز الذين اعترفوا بذلك في مذكرات السكرتير الإداري البريطاني جيمس روبرتسون الذي اعترف بتزوير مؤتمر جوبا حين قال إن ذلك المؤتمر قرَّر توحيد الجنوب بالشمال. لقد كان الجنوب ورماً سرطانياً ولم يكن جزءاً حقيقياً من الوطن السوداني ولذلك لم يشعر السودانيون من أبناء الشمال في يوم من الأيام أن أبناء الجنوب جزء منهم الأمر الذي أدى إلى ذلك الانفصال (الاجتماعي) بين الشعبين حيث لم يكن أبناء الجنوب يشاركون الشماليين في أفراحهم وأتراحهم وكان الشماليون كذلك بعيدين عن أبناء الجنوب في مناسباتهم الاجتماعية حتى بعد أن نزحوا بالملايين إلى الخرطوم وإلى غيرها من مدن السودان. أقول ذلك حتى يقتنع من لا يزالون يبكون على فقدان ما يسمونه بربع مساحة السودان.. حتى يقتنعوا بأنهم لم يفقدوا إلا ذلك الورم السرطاني الذي ينبغي أن يفرحوا باستئصاله كما يفرح المريض وهو يتعافى من إزالة ورمه الخبيث. لمصلحة من يحدث هذا؟! لو فكر من أقدموا على إحراق كنيسة الجريف غرب فيما ينطوي عليه صنيعهم من خطر على الإسلام والمسلمين في دولة جنوب السودان لربما راجعوا أنفسهم ولم يُقدموا على هذا الفعل المنكر. ما علاقة كنيسة الجريف غرب بما ارتكبته الحشرة الشعبية وجيشها في هجليج ولماذا إقحام الكنيسة في هذا الصراع؟! لماذا ينسى من ارتكبوا هذا الفعل القبيح أن الله تعالى قال في كتابه العزيز: (لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) ماذا فعل مرتادو هذه الكنيسة من جُرم حتى يُحرموا من البر الذي أُجيز لنا أن نُغدقه على النصارى ممن يخالطونا ويشاركوننا في وطن الجميع وكيف كان سيفعل أيٌّ ممَّن ارتكبوا تلك الفعلة لو كان متزوجاً من مسيحية وفق ما أحله الله؟! هل كان سيحرمها من الذهاب للكنيسة أو يُكرهها على الإسلام وقد قال الله تعالى: «لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ» وقال مخاطباً رسوله صلى الله عليه وسلم: (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)؟! لطالما شكونا من إحراق المساجد والمصاحف في جنوب السودان قبل الانفصال وأقمنا مناحة جرّاء إحراق وتدمير مسجد رومبيك الذي أُقيم أيام الاستعمار البريطاني ومن أسفٍ فإن بعض المتطرفين يرتكبون أفعالاً تسيء إلى الإسلام وإلى السودان وأهم من ذلك تتسبَّب في تضييق الخناق على الإسلام في دولة جنوب السودان التي كانت ولا تزال تشنُّ الحرب على الإسلام حتى قبل أن يمنحها هؤلاء ذريعة لأفعالها. تنويه في مقال الأمس الذي رددتُ به على الظافر الأمريكي السوداني المتعاطف مع الحركة الشعبية سقطت الفقرة التالية أثناء جمع المادة: بالرغم مما ذكرتُ فإني أشهدُ بأن هناك سودانيين اضطُروا إلى الهجرة أو هاجروا بمحض إرادتهم وأقاموا في دول أخرى مُنحوا جنسيتها لكنهم أكثر انتماءً وحماسة لسودانيتهم من كثيرين لم يغادروا السودان وقد ظللتُ أتلقّى الرسائل والاتصالات من أمثال هؤلاء خاصة بعد تحرير هجليج تكشف عن عمق ولائهم وحبِّهم للسودان وقد تلقيتُ اليوم على سبيل المثال عدة مكالمات من خارج السودان أذكر من أصحابها علي تاج الدين من هولندا وأمجد من النرويج هذا علاوة على عدد من الاتصالات من دول عربية.