لعبت فرنسا في عهد ساكوزي أدواراً مختلفة تجاه السودان وقضاياه، وكان لها قصب السبق في تأزيم الكثير من المشكلات الداخلية التي يواجهها، وتأليب الدول الأوروبية والغربية وبعض البلدان الأخرى، إبَّان مهزلة ما يُسمى المحكمة الجنائية الدولية، واحتضنت باريس العديد من معارضي السلطة في الخرطوم وقادة الحركات المتمردة في دارفور، منهم عبد الواحد محمد نور رئيس ما يسمى حركة تحرير السودان، الذي عادت وأبعدته ربما بترتيب لا يخلو من مكر ودهاء سياسي إلى يوغندا، حتى يكون قريباً من إدارة الصراع والحرب في دارفور بدلاً من التسكع ومجالدة الخرطوم وقصفها بالتصريحات من جادة الشانزليزيه ومقاهي ساحة دار الأوبرا وشاتليه في باريس. وفي الأواخر من موسم ساركوزي السلطوي قبل أن يفارق الأليزيه، بدأت فرنسا تنتهج سلوكاً سياسياً أكثر ما يتصف به أنه محاولة للتهدئة ولجم الخلاف مع الخرطوم، برغم ما فعلته باريس والتزامها الصارم بتوجهات الاتحاد الأوروبي وسياسته الخارجية في ما يتعلق بالسودان، وربما تكون هناك تلاقيات قليلة لكنها كثيفة الأثر قاربت بين الجانبين، منها موقف الخرطوم من نظام القذافي في ليبيا وقيادة فرنسا للعمليات السياسية والعسكرية ضد القذافي حتى سقوط نظامه ومقتله الدرامي، كما أن هناك تقاربات أخرى في قضايا إفريقية، لكنها لم ترتق بالعلاقات أكثر من المحطة التي بقيت عليها، وسكوت الحكومة الفرنسية عن إثارة بعض نقاط الخلاف الرئيسة مع الخرطوم. وظل الموقف الفرنسي في مسألة السلام مع الجنوب ودارفور على ما هو عليه وما كان معلناً من قبل، مع تحول طفيف جداً وطفح جلدي محدود في السياسة الفرنسية أظهرته تصرفات حكومة دولة الجنوب وتطورات السلام المُرتجى في دارفور خلال مفاوضات الدوحة وبعد التوقيع على وثيقتها، حيث كانت باريس من القوى الدولية التي تدعم اليوناميد وتوفر الدعم السياسي لما تم في الدوحة. وجاءت الانتخابات الفرنسية بكل ما فيها من جديد، فقد كان متوقعاً ذهاب ساركوزي الذي جرَّ فرنسا لتكون تابعاً للسياسة الأمريكية رغم أن اليمين الفرنسي ظل منذ عهد ديغول وحتى جاك شيراك الذي يعتبر ورقة تفسيرية خجولة للديغولية، يحاول أي هذا اليمين إظهار فرنسا كأنها قوة كبرى ومستقلة في العالم لها مواقفها وخصوصياتها وتصوراتها المختلفة عن الآخرين في السياسة الدولية. وجاء الاشتراكيون للحكم في فرنسا بعد سبعة عشر عاماً منذ انكساف شمس فرانسوا ميتران، وحل فرانسوا هولاند في الأليزيه سيداً بعد سلفه ساركوزي، لكن دون أن ينطق بكلمة واحدة في ما يتعلق بالسياسة الخارجية، أو بالأخرى لم يتطرق لشيء خارج أسوار فرنسا وداخل حظيرة منطقة اليورو فقط، مركزاً على القضايا الداخلية والاقتصاد الذي يقف على حافة الهاوية وشبح الأزمة اليونانية الذي يخيم على فرنسا نفسها، ولم يصدر حتى الآن عن سيد الأليزيه الجديد أو حكومته التي أتى فيها برئيس الحكومة الأسبق لوران فابيوس، وزيراً للخارجية، لم يصدر شيء يتعلق بهموم إفريقيا دعك عن السودان، ولم تتحدد مواقف بعينها حيال الدول الإفريقية ودور فرنسا المستقبلي في تلاطماتها. ويجب ألا يفسر هذا الصمت المطبق والصوم عن قضايا السودان ومحيطه الإقليمي وعدم تعجل الحكومة الفرنسية الجديدة، بأنه نقطة في صالح العلاقات بين السودان وباريس، فتاريخياً معروف أن الحزب الاشتراكي واليسار الفرنسي بوجه عام، هو الحزب الذي يحتضن اليهود الفرنسيين المؤيدين بشدة والمدافعين بقوة عن دولة الكيان الصهيوني، وظلت أوساط هذا الحزب وصحيفته «ليبراسيون» وهي صحيفة ذات تأثير بالغ هنا في فرنسا، ظلت توجه انتقادات عنيفة للسودان وتتبنى مواقف متشددة ضده، ويُعتبر كتَّاب الصحيفة من عضوية الحزب الملتزمين وكثير من الأكاديميين والباحثين في المراكز والمعاهد المتخصصة في الشأن السياسي والدراسات الإستراتيجية والمنظمات وناشطيها، هم الصوت الأعلى صراخاً في العداء للسودان داخل الفضاء الإعلامي والسياسي الفرنسي. لكن مع كل هذا لا يستطيع أحد التكهن بماذا تنطق السلطة الاشتراكية الجديدة التي تواجه تحديات جساماً داخلياً وحالات استقطاب أمريكية مستمرة في الساحة الدولية، لكن خلال وجودي هنا في باريس وتحسس نبض السياسة الفرنسية، لا تبدو في الأفق حالة عداء ومواجهة ولا رغبة في تدفئة العلاقة أكثر، فالحزب الاشتراكي يحكم الآن ولديه أولويات ضاغطة، ويحاول وراثة الشعارات الديغولية حول استقلال القرار الفرنسي وأهمية دورها الدولي، ويجد أمامه ملفات ضئيلة الحجم ونقاطاً لا تصلح للبناء عليها، فالعلاقات التجارية والاقتصادية مع السودان لا تكاد تذكر، والحوار السياسي بدأ في آخر أيام ساركوزي بطيئاً تلهث الانتخابات وراءه، وربما يكون هناك تعاون وتفاهم استخباري تحت الطاولة، وهناك تحسن طفيف في العلاقات الثقافية والسماح مرة أخرى بالمنح الدراسية للسودانيين، والتعامل مع جامعتين سودانيتين، وترتيب قبول جامعة الخرطوم بوصفها مراقباً في المنظمة الفرانكفونية تمهيداً لقبول السودان بصفة مراقب في المنظمة ذاتها، لكن هل يرقى كل هذا النزر اليسير واللم إلى التقاء جديد وتفهم ما يحدث في السودان؟ الإجابة ليست موجودة الآن، والأليزيه بدت حديقته مساء أمس مظلمة وماطرة، والطريق إليه مغلق، وبجواره السفارتان الإسرائيلية والأمريكية فقط!!