للمتنبي بيت شهير من الشعر مفاده «إن الرأي مقدم على الشجاعة» ويؤسس لأهمية الرأي بحيث يجعله في المرتبة الأولى قبل الشجاعة، والمعنى برمته مؤشر لمدى الاختلاف بين الأمس واليوم الذي عزت فيه الشجاعة التي باتت تحت لحاظ سيوف السلطة، حتى إنه من المعروف أن الرؤساء الأمريكان في الفترة الرئاسية الأولى لحكمهم تكون قراراتهم رهن اللوبيات ذات التأثير على العملية الانتخابية في الدورة الثانية، لذا فهم في حل من أمرهم متى ما ظفروا بالرئاسة للمرة الثانية، أما في السودان فقد راجت في الآونة الأخيرة تصريحات وقرارات طابعها الجرأة والشجاعة ربما، آخرها قضية الأوقاف التي أثارها وزير الإرشاد خليل عبد الله في البرلمان، متهمًا سلفه السابق أزهري التجاني والأمين العام السابق للأوقاف الطيب مختار بالتورط في أعمال فساد طالت الأوقاف السودانية بالمملكة السعودية.. وربما كانت هذه هي السابقة الأولى في أن يتهم وزير من الوطني زميله في الحزب علنًا ومن داخل البرلمان. على النقيض من نظرية المحاسبة الداخلية لعضو الحزب الذي يتقلّد موقعًا حكوميًا كما قال رئيس البرلمان أحمد إبراهيم الطاهر الذي قال في أحاديث صحفية إنهم في الحزب يفضلون محاسبة أعضائهم داخل مؤسسات الحزب، وليس بعيدًا عن الأذهان تصريحات وزير الزراعة عبد الحليم المتعافي في البرلمان إبان إثارة قضية فساد تقاوي زهرة الشمس التي قال بشأنها إن ملف التقاوي سيطيح رؤوسًا كبيرة، رغم أن الرجل كان همه الدفاع عن نفسه وهناك ملف المدينة الرياضية الذي لم يتوانَ وزير الرياضة السابق حاج ماجد سوار في إثارته والتقصي بشأن الاعتداءات التي طالت مساحة المدينة، التي اتضح أن ثمة قرارات ما كانت ذات صلة مباشرة بإصدار قرار الاستقطاع لصالح جهات بعينها، إلا أن شجاعة سوار أدت لإبعاده من سدة الوزارة واختياره سفيرًا للبلاد في ليبيا. وفي شأن دولة الجنوب التي طغت على الشأن السياسي الداخلي والعالمي عبر منفذ القضايا العالقة كان القرار غير المنتظر «اضرب لتقتل» والذي أصدره النائب الأول علي عثمان محمد طه في البرلمان تجاه كل من يضبط متلبسًا في تهريب البضائع والوقود لدولة الجنوب، قمة درجات الشجاعة وتحمل المسؤولية الوطنية بحسب مراقبين، وفي السياق نفسه يشابهه الاعتراف النادر الذي سجله عضو مفاوضات نيفاشا وأديس الحالية وسفير السودان للجنوب مطرف صديق في حواره للزميلة «المجهر السياسي» أن الحركة الشعبية استغفلتهم بحصولها على الاستفتاء والاعتراف بنتائجه دون حسم القضايا العالقة بين الطرفين، خاصة الأمنية منها والتي ترتبت عليها الحرب الدائرة في ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان فضلاً عن مخاطر التدويل التي تحلق في ملف العلاقات بين البلدين خاصة بعد اختطاف مجلس الأمن للملف من الاتحاد الإفريقي بتواطؤ الأخير الذي أحال الملف دون استشارة السودان. ويحفظ الناس كثيرًا من المواقف القوية لمستشار الرئيس الأسبق سعاد الفاتح والتي قالت إنها أُبعدت من منصبها لأن إخوانها في الحكومة باتوا لا يستحملون حديثها ومضت في ذات الطريق الجرئ داخل البرلمان بينما عد البعض تقدم وزير الإعلام عبد الله باستقالته ضربًا من ضروب الشجاعة كونه لم يستحمل أن يبقى في منصبه وموظف في درجة أدنى منه يستقوي بالرئاسة، وكذلك والي جنوب دارفور الأسبق د. عبد الحميد موسى كاشا الذي اعتذر وبكل شجاعة عن قبول منصب والٍ شرق دارفور. في حيثيات تلك القرارات والتصريحات تجيء تبعًا للجانب الجنوبي بالنسبة لطه ومطرف، أما المتعافي فتبدو أحاديثه دفاعًا عن النفس بأسلوب غير مباشر.. أما خليل فهو وإن كان يؤدي مهامه وزيرًا للإرشاد فإن أمين الأوقاف المقال الطيب مختار ألمح في صالون صحيفة «الوطن» إلى أن الوزير يصفي حسابه معه باعتبار تبنيه لاستقلالية الأوقاف بينما يسعى الوزير ومنذ أن كان وزير دولة في الوزارة نفسها إلى أن تتبع الأوقاف إداريًا للوزارة.. أما كاشا لاعتقاده بأنه سيجابه بمتاريس من جهات بالمركز بشأن المال. وفي حديثه ل «الإنتباهة» لم يتحمس الخبير السياسي المعروف حسن الساعوري أن يسبغ صفة الشجاعة على القرارات أعلاه.. واختار أن يصفها بالشفافية.. أما أسباب الشفافية تلك فمردها للدور الكبير الذي صارت تؤديه الصحافة السودانية في الشأن العام.. لذا أثر أولئك المسؤولين التزام الشفافية عوضًا من أن تتولى الصحافة هذا الدور التي أخذت تمارسه بقوة مؤخرًا.