تمايلت طربًا وحنينًا وتحنانًا بديار الأهل والعشيرة ومسقط الرأس بشمال السودان على أنغام الطنبور وإيقاع الدليب أخذتني أحلام اليقظة في سياحة إلى أيام الطفولة والصبا وتلك الديار رمالها وكثبانها ونيلها ونخيلها «أو لبلب شليل وينو اكلو الدود شليل وين راح أكلو التمساح» قطع أحلامي تعالي التصفيق، تطلعت إلى خشبة المسرح ترجلت إليها صبية ممشوقة القوام فارعة الطول أبنوسية اللون شعرها مطول بفتلات من الجورسيه ومزدان بحلى تميل يمنة ويسرى وتتقدم إلى الأمام وإلى الخلف تتطول وتقصر وتحرك جيدها النحيل الطويل في كل الاتجاهات ومعه يدور شعرها المتدلي إلى خصرها وتتوهج معه حلى الزينة كنجوم ليل داكن وخطواتها وحركاتها وسلوكها انعكاس لإيقاع الدليب وأنغام طنبور المبدع العائد بعد غياب الأستاذ محمد كرم الله. كان ذلك في إحدى ليالي رمضان بصالة بيت الفنون بحري للفنان الموهوب طارق الأمين.. التفت وقتها إلى مضيفي الصديق دكتور خليفة العوض وقد انضم إلينا في تلك الليلة الحالمة المذيع المخضرم عمر الجزلي سألته عن تلك الصبية وكانت الإجابة اسمها جوليا من جنوب السودان ومن منسوبي الفرقة القومية للفنون الشعبية ساقتني خطاي وغناء محمد كرم الله الشجي إلى خشبة المسرح وأنا أصيح .. أبشر أبشر بالخير .. وأكرمتنى جوليا بشبال وكانت ليل سعد وبركة حزمت بعد هذا الألق حقائبي ورحلت عن الوطن وفي بُعده لقيت كل الأرض منفى... وبعد عودتي كان المرفأ بالنادي العائلي الخرطوم، كنت ضيف شرف في ليلة وفاء لتكريم الأستاذ بابكر صديق وحبات اللالئ التي اختارها بانتقاء وإتقان لتشكل نجوم الغد أسماء زينت سماء وطني الحبيب عبر الفضائية إلى كل سماوات الدنيا. «ريماز، شريف، عبير، فهيمة، أفراح وشول».. سكنت ودغدغت وجدان الشعب السوداني غنوا وتغنوا بتطريب شنّف آذان الحفل الكبير وكان جلوسًا بجواري الصادق المهدي طرب لهذه المواهب الفذة، قدمني الأستاذ أمير التلب لمخاطبة الجمع شكرتهم على لحظات الفرح والجمال.. ** الوداع الأخير أدرت مؤشر ردايو السيارة صباح الأحد المنصرم وصقعني خبر وفاة الفنان المبدع نادر خضر، لحظتها تذكرت آخر لقاء بيننا في مطار الخرطوم وأنا في طريقي إلى لندن وحضر هو لوداع بعض أهله المسافرين إلى دبي، ودعهم وودعني بحرارة وحنينية لم يخطر ببالي حينها أنه الوداع الأخير.. عرفت نادر في العشر سنوات الأخيرة من خلال زياراتي المتكررة للوطن؛ كان نادراً بحق وصدقه ويأسرك ذكاؤه وفكره وثقافته، موهوب مطبوع كريم أنيق، أخ إخوان ولن تزده النجومية والشهرة إلا تواضعاً وحباً ومعجبين.. حزنت لفراقه فله الرحمة وجنات الخلد وسيظل خالداً بيننا بأعماله.. ** حاشية: اتصلت بي السيدة عزيزة درويس زوجة الأستاذ محمد صابر فهمي أول مدير لإذاعة أمدرمان معقبةً على مقالي الأخير «توتي جزيرة الأعلام» مشيرةً إلى أن كلمة «تو» تعني بطن و«تي» تعني البقرة، أي أن كلمة توتي تعني بطن البقرة باللغة النوبية، وأُذكِّر بتعريف د. حموري «تي» تعني الجزيرة ومساهمة ابنتي لينا تعني «اتنين شاي» وصاحب العقل يميِّز..