٭ لعل معركة الاحتجاج والحُجَّة بين المواطن الذي لا يتعامل بالمنطق الاقتصادي والحكومة التي يعوزها «إعلام اقتصادي ذكي» لعلها قد بدأت بعد كشف الغطاء عن نية الحكومة في إعادة أسعار المحروقات الحقيقية برفع الدعم عنها، المواطن يحتج على رفع الدَّعم الذي هو ليس زيادة لأسعارها بل هو إنهاء كرم حكومي في وقت تمر فيه البلاد بأزمة اقتصادية حادة لظروف لعلها واضحة، ولولا هذه الأزمة الاقتصادية لكان أفضل بالطبع للحكومة ولو من باب المكاسب الانتخابية أن يستمر هذه الدَّعم، لكنها الآن أصبحت أمام خيارين إما استمرار الدعم للمحروقات وتعريض البلاد لكارثة «إنفاقية» بعد العجز الكبير الذي اعترى ميزانية هذا العام وإما تقديم هدية سياسية للقوى المعارضة لتقوم بانتهاز الفرصة بواسطة تصريحات بعض الزعماء في المنابر ومناضلي «الكيبورد» الذين حيَّاهم الكاتب الصحفي زهير السَّراج حينما كتب مقالاً تحت عنوان «التحية لمناضلي الكيبورد».. وربما كان السَّراج يخص بتحيته صديقه المناضل الكيبوردي الحاج ورَّاق. لكن العبرة تكون بالمناظرات ومقارعات الحجج بالحجج وجهاً لوجه، وليس على طريقة: «اضرب واهرب».. وهي طريقة حرب عصابات لا تريد أكثر من تحقيق نظرية الثعلب «سهر الدجاج ولا نومه» مع أن ضحاياها هم المواطنون الأبرياء، ونرجو من مناضلي الكيبورد أن يتناولوا القضايا الاقتصادية بتجرد وموضوعية لأنها ليست مثل القضايا السياسية التي يمكن أن تقبل أحيانًا المزايدات وإن كانت سخيفة لا معنى لها. الحكومة اختارت رفع الدعم عن المحروقات لتعود أسعارها الحقيقية بدلاً من أن تضطر الدولة لأكثر من رفع الدعم وهو بعد أن ترفعه ترفع كذلك أسعارها.. كل هذا يمكن أن يكون نتيجة لعدم معالجة فجوة الميزانية ببعض الإجراءات التي لا تزيد سعراً ولا تضخِّم حجم ورق العملة الوطنية فتتدنى قيمتها أمام الدولار ويتأثر بعد ذلك القطاع الخدمي «الصحي والتعليمي» ويكون الحل هو زيادة الضرائب والرسوم. وعلى سبيل المثال فإن مستشفى الخرطوم يحتاج حالياً إلى «جهاز الصفائح الدموية» لإجراء العمليات الجراحية للمواطنين الفقراء بعد أن تعطل الجهاز القديم واستعصى على مساعي الإصلاح. والمواطن من حقه أن يحتج لكن ليس على ما ليس منه بُد.. بل على الأسباب التي أدَّت إلى هذه النتائج التي منها الإضطرار لرفع دعم المحروقات. والسؤال هنا إذن: ما هي هذه الأسباب؟!.. هناك حزمة أسباب طبيعية وأخرى فوق إرادة الدولة وثالثة تعود لضعف في تفكير الحكومة تجاه النظام الاقتصادي للدولة.. فمثلاً بعد انفصال الجنوب مباشرة كان يمكن أن تتراجع الحكومة عن بعض القرارات القديمة مثل «سياسة التحرير».. لأن الأوضاع الاقتصادية لم تعد تحتمل هذه السياسة، واستمرارها مع هذه التطورات الاقتصادية من شأنه ان يُدخل البلاد في مرحلة «اقتصاد الندرة».. وهو أسوأ من زيادة الأسعار ورفع الدعم عن بعض الأسعار الحكومية. ومن أهم الأسباب التي فتحت شهية التغيير في عهد الصادق المهدي رئيس الوزراء المنتخب هو «اقتصاد الندرة».. وكذلك التغيير في آخر عهد نميري الذي نُسب إليه أنه قال: «ليأكل الشعب وجبتين فقط في اليوم». وعلى الدولة أن توفر كل دولار لاستيراد ما هو أهم وما ليس بذي أهمية لا ينبغي أن تهتم به على الأقل في هذا الوقت. الوضع الاقتصادي الآن يحتاج لحزمة قرارات لصالح المواطن البائس الفقير الذي يقلقه زيادة سعر الخبز، ولا يهتم بزيادة أسعار السلع التي لا يستهلكها الفقراء جداً أو رفع الدعم عنها مثل هذه المحروقات.. المشكلات الاقتصادية مسلَّمات ويكون حلها بنظريات أكاديمية لكن تطبيق هذه النظريات يتطلب أيضاً تراجعاً عن بعض القرارات التي صدرت في مناخ اقتصادي أفضل، وفي وقت كان فيه سعر صرف العملات الصعبة لطيفاً، ولم تضطر الحكومة لجعل سعره مثل سعره في السوق الأسود كما هو الآن.