بالفيديو.. شاهد اللحظات الأخيرة من حياة نجم السوشيال ميديا السوداني الراحل جوان الخطيب.. ظهر في "لايف" مع صديقته "أميرة" وكشف لها عن مرضه الذي كان سبباً في وفاته بعد ساعات    راشد عبد الرحيم: امريكا والحرب    بالفيديو.. شاهد اللحظات الأخيرة من حياة نجم السوشيال ميديا السوداني الراحل جوان الخطيب.. ظهر في "لايف" مع صديقته "أميرة" وكشف لها عن مرضه الذي كان سبباً في وفاته بعد ساعات    عاجل.. وفاة نجم السوشيال ميديا السوداني الشهير جوان الخطيب على نحو مفاجئ    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    ((نعم للدوري الممتاز)    رئيس مجلس السيادة يتلقى اتصالاً هاتفياً من أمير دولة قطر    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    الكشف عن سلامةكافة بيانات ومعلومات صندوق الإسكان    هل يرد رونالدو صفعة الديربي لميتروفيتش؟    بنك الخرطوم يعدد مزايا التحديث الاخير    شاهد بالصورة والفيديو.. فتاة سودانية تظهر في لقطات رومانسية مع زوجها "الخواجة" وتصف زواجها منه بالصدفة الجميلة: (أجمل صدفة وأروع منها تاني ما أظن القى)    لاعب برشلونة السابق يحتال على ناديه    مفاوضات الجنرالين كباشي – الحلو!    محمد وداعة يكتب:    مستشفي الشرطة بدنقلا تحتفل باليوم العالمي للتمريض ونظافة الأيدي    عالم «حافة الهاوية»    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    انتخابات تشاد.. صاحب المركز الثاني يطعن على النتائج    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    كوكو يوقع رسمياً للمريخ    برقو لماذا لايعود مديراً للمنتخبات؟؟    عقار يلتقي وفد مبادرة أبناء البجا بالخدمة المدنية    باريس يسقط بثلاثية في ليلة وداع مبابي وحفل التتويج    السودان..اعتقالات جديدة بأمر الخلية الأمنية    جماهير الريال تحتفل باللقب ال 36    شاهد بالصور.. (بشريات العودة) لاعبو المريخ يؤدون صلاة الجمعة بمسجد النادي بحي العرضة بأم درمان    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    نتنياهو مستمر فى رفح .. إلا إذا...!    السيسي: لدينا خطة كبيرة لتطوير مساجد آل البيت    ترامب شبه المهاجرين بثعبان    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    روضة الحاج: فأنا أحبكَ سيَّدي مذ لم أكُنْ حُبَّاً تخلَّلَ فيَّ كلَّ خليةٍ مذ كنتُ حتى ساعتي يتخلَّلُ!    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    القبض على الخادمة السودانية التي تعدت على الصغيرة أثناء صراخها بالتجمع    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    (لا تُلوّح للمسافر .. المسافر راح)    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مع علي الحاج في مهجره «الجزء الثاني»
نشر في الانتباهة يوم 05 - 06 - 2012

في ضاحية «بادغوديزبيرغ» التي تبعد عشرة كيلومترات تقريباً من وسط مدينة بون العاصمة السابقة لألمانيا الغربية، وفي عمارة من أربع طبقات تتكون من عدة شقق سكنية، في الطابق الأول قبالة المدخل الرئيس توجد شقة متوسطة الحجم، يعيش فيها مع أسرته، الدكتور علي الحاج محمد، نائب الأمين العام للمؤتمر الشعبي المعارض والقيادي الإسلامي المعروف، الذي هاجر لألمانيا عقب الانشقاق الكبير للحركة الإسلامية والمؤتمر الوطني قبل اثنتي عشرة سنة واختارها منفاه لخريف عمره السياسي ...
استقبلنا د. علي الحاج بحرارة عند مدخل العمارة في هذه الضاحية الهادئة التي كانت مقر سكن الدبلوماسيين الأجانب أيام ألمانيا الغربية قبل عودة العاصمة لبرلين عقب توحيد الألمانيتين.
كان الرجل بشوشاً للغاية، مرت سنوات طويلة لم أره فيها ، كان يرتدي بنطالاً أزرق اللون، وقميصاً بخطوط طولية بيضاء على زرقاء، غزا الشيب مفرقيه، كأنه غبار الحياة ... لكن ابتسامته لم تفارقه رغم أنه كان يتلقى منّا العزاء في وفاة شقيقته...
دلفنا داخل الشقة البسيطة الأثاث، في صالون الاستقبال الرئيس، توجد مكتبة ضخمة على اليسار، فيها أمهات الكتب الدينية وعدة مصاحف، وكتب وأوراق خاصة وملفات كثيرة، وضعت على الأرفف بعناية فائقة، إلى اليمين ونحن نتجه نحو مقاعد الصالة، يوجد شبه ممر جانبي صغير يستخدمه مكتباً للكتابة والقراءة ومراجعة أوراقه، وعلى طاولة صغيرة أيضاً توجد نظارة قراءة وبعض متعلقات خاصة.. أمام مقاعد الجلوس طاولة كبيرة عليها أواني وأباريق الشاي والقهوة وسلة فاكهة، وامتلأ المكان بضحكات الرجل المعروفة وتعليقاته الفورية وأسئلته الملحاحة عن الأوضاع في البلاد والأهل والمعارف والأصدقاء.. وهو حاضر الذهن والبديهة متقد الذاكرة.. رغم أن بريقاً غامضاً في عينيه يمعن في التأكيد أنه يشعر بحنين جارف لبلده وناسه.
كل مداخل الحديث كانت سهلة للغاية.. وكل شيء يفتح ألف باب للحوار، تركت الأمور تسير بتلقائيتها وتداعيها الطبيعي قبل أن نشرع في الحوار... تناولنا معه مختلف قضايا السياسة ما سبق منها وراهنها الحالي من العلاقة بين السودان وجنوب السودان ودارفور ومستقبل الأوضاع في البلاد وأسباب غيابه الطويل وموانع عودته...
ثمة ملاحظات سريعة على علي الحاج في مهجره... حفظ القرآن الكريم، وتعمق في دراساته حدثنا طويلاً عن القراءات والروايات المختلفة ومقارناتها من المغرب وموريتانيا وليبيا ومصر وغرب السودان وحفظه لأجزاء من القرآن الكريم على يد الشيخ أحمد الربيع بنيالا رحمه الله، وأبدى ملاحظات على القراءات في دارفور وكيف حفظ الناس القرآن في الصدور، وعرفوا رسم المصحف وهم لم يروا مصحفاً مطبوعاً إلا في نهاية أربعينيات القرن الماضي في طبعة الملك فاروق، وقال آراء كثيرة في هذا الجانب ويحتفظ بكتب ومصاحف بالروايات والقراءات المعروفة والمخطوطات النادرة.
زادت قناعاته لدرجة لا يوصف حدها، بأهمية الحريات العامة والثقافة الليبرالية والديمقراطية، ويبدو أن تجربته الطويلة في الغرب، جعلته ينظر وفق مراجعات فكرية وسياسية للسودان منذ عهد الحكم الوطني حتى اليوم عبر منظار نقدي صارم، أفاده في استخلاصات ختامية مفادها أن الحرية لا غنىً عنها في التطور السياسي والحكم الراشد.
من منصة خارجية ينظر للأوضاع في السودان ويجمع معلومات من مصادر شتى، مما أتاح له تقييم ما يجري بأدوات تحليله الخاصة ويصل لما يراه صواباً حين يبدي رأياً.
يكتب في هذه الفترة مذكراته الشخصية عن أحداث عاصرها، وأخرى شارك فيها وتفاعل بها، وأوضاع كان في لبِّ صناعتها، وتحولات وتطورات كانت له يد فيها ورموز وشخوص عامة عاش معها ورافقها وعمل معها وراقبها عن كثب.. لذلك تجده حاضر المعلومة لا يتحدث إلا بتواريخ وتوثيقات دقيقة يذكر فيها الساعة واليوم والشهر والسنة، وكأن ما عاشه وهو يتخطى عتبات السبعين.. كتاب مفتوح أمامه.
سارت عملية السلام من بعدكم يا دكتور.. وانتهت محطتها بنيفاشا واعتُبِرت إنجازاً ضخماً، كيف نظرت إليها وأنت كنت ملمًا بتفاصيل ما كان يدور؟
أولاً حتى حدوث وقوع المفاصلة وانشقاق الحركة الإسلامية يؤسفني القول إنه لم يتقرر حتى تلك اللحظة أن يكون هناك سلام حقيقي... والاختلال الذي حدث كان قبل المفاصلة وأدى لعلة كبيرة في نظام الحكم والحركة الإسلامية والتي أقرِّر هنا أنها لم تكن حاكمة بالمعنى الذي أعرفه أنا! صحيح حكم أفراد منها باسمها... كلنا كنا في الحكم، لكنها لم تحكم قط بمنهجها وأدبياتها وأفكارها وتوجهاتها وخططها وبرامجها الكاملة... خاصة في عملية تحقيق السلام وإنهاء الحرب وقضية الجنوب بدليل ما حدث بعد ذلك...
هل كانت تُنسج خيوط أخرى لمشروع السلام في السودان بواسطة قوى خارجية.. هل كنت تتابع هذه الخيوط؟
«رد بسرعة وبسؤال»: ماذا تقصد بخيوط تنسجها القوى الخارجية؟
أقصد أنه حدثت تحركات دولية وإقليمية لإبرام سلام في السودان تحركت الإيقاد وشركاؤها وهناك المبادرة المصرية الليبية وغيرها؟
المجتمع الدولي لم يكن له دخل كبير في الموضوع... والإيقاد تدخلها ليس صنيع المجتمع الدولي كما ذكر د. غازي صلاح الدين قبل أيام في مقال له نشرتموه أنتم في صحيفتكم... دخول الإيقاد في ملف السلام صنعناه نحن.. وتورطنا فيه بأيدينا منذ بداية تأسيس هذه الهيئة مطلع التسعينيات!!
كيف حدث ذلك؟
حدث ذلك في إثيوبيا... ولم تكن الهيئة الحكومية لمكافحة الجفاف والتصحر معنية إطلاقاً بملف وقضية السلام في السودان... لكن في سبتمبر من 1993، كان هناك اجتماع للإيقاد في أديس أبابا كان هناك اجتماع لرؤساء الإيقاد، وتحديداً في «4» سبتمبر حدث اجتماع خاص في مقلي رئاسة إقليم التقراي وموطن الرئيس الإثيوبي ملس زيناوي، وقدم دعوة للرئيسين البشير وأسياس أفورقي واجتمع هؤلاء الرؤساء الثلاثة هناك قبل القمة، وكان الرئيس معه الفاتح عروة والسفير عثمان السيد وعنايات عبد الحميد كان سفيراً آنذاك في كمبالا والدكتور نافع علي نافع وجعفر محمد صالح سفيرنا في أسمرا وكلهم «ناس أمن» وفي هذا الاجتماع تقرر كما حكى لي الرئيس بنفسه إسناد الأمر للإيقاد، بحجة أنه بعد ذهاب الرئيس النيجيري إبراهيم بابنجيدا من الحكم في بلاده، وكان يرعى مفاوضات السلام في السودان، وحتى لا تتدخل جهة خارجية، علينا أن نأتي بملف السلام للإيقاد ليكون داخل الإطار الإقليمي ولسهولة متابعتنا له وتأثيرنا فيه..
ماذا قلت للرئيس وأنت كنت ممسكًا بالملف في ذلك الوقت؟
أنا لم أكن حاضراً ذلك اللقاء في مقلي بإثيوبيا، لأنني كنت في الضعين لمتابعة موضوع يتعلق بسلام قبلي بعد مشكلة بين الرزيقات والمسيرية، كنا هناك مع الشهيد الزبير، والطيب إبراهيم محمد خير كان والياً لكل دارفور، وعبد الرحيم محمد حسين، واللواء الحسيني كان حاكمًا في كردفان، في ذلك التاريخ تقريباً يوم «3» سبتمبر سقطت طائرة الشهداء أحمد الرضي جابر وأبو قصيصة.. وعندما حكى لي الرئيس عقب عودته من قمة الإيقاد وطلبني لهذا الأمر بأن ملف المفاوضات قررنا أن نسلمه للإيقاد.. ونسبة لوجود الرئيسين ملس وأسياس وهما صديقان للسودان وساهمنا بدور كبير في نجاح ثورتيهما لإسقاط نظام منغستو واستقلال إريتريا، سيكونان معنا في متابعة ملف التفاوض في الإيقاد و«نحن حالة واحدة..» وأضاف لي الرئيس «اتفقنا على أن يكون الرئيس الكيني دانيال أراب موي هو المسؤول في الإيقاد عن هذا الملف»، ربما تم ذلك حتى لا تعطى فرصة للرئيس اليوغندي موسيفني... و...
«قاطعته» ماذا قلت للرئيس عندما أخبرك بذلك؟
سألت: هل عندكم شيء مكتوب لأراب موي وهل عندما كلفتموه حددتم له إطار تحركه وكتبتم له تفويضًا محددًا.. قال لي: «لا... لكننا كلفناه ووافق... وكلفنا وزراء الخارجية في دول الإيقاد لمتابعة تنفيذ الموضوع».. فقلت له: يا السيد الرئيس هل يستطيع وزراء الخارجية متابعة موضوع ليس من اختصاصات العمل الخارجي هو موضوع داخلي له خصوصيته؟
هل اقترحت شيئاً في حديثك هذا مع الرئيس؟
قلت له رأيي في إسناد هذا الأمر لوزراء الخارجية في الإيقاد.. وأشرت أنه من المناسب أن يكون لكل رئيس من رؤساء الإيقاد مندوب خاص أو مبعوث كما فعلنا مع نيجيريا، وقلت له إن وزراء الخارجية مشغولون ولن يتفرغوا لهذا الأمر.. وقلت له من أين سيبدأ هؤلاء؟ وقال لي: ماذا تقول أنت؟ قلت له فليبدأوا من ما توصلنا إليه في أبوجا الأولى والثانية، وتوجد لدينا في أبوجا الأولى «19» مجلدًا من الوقائع والمحاضر وتوجد في أبوجا الثانية «21» مجلدًا كلها «40» مجلدًا تحتوي كل النقاشات في كل قضايا السلام مع حركة التمرد بقيادة قرنق.. خاصة أننا في أبوجا الثانية جلسنا كسودانيين من الجانبين، وفدنا فيه سبعة برئاسة محمد الأمين خليفة، ووفد الحركة فيه سبعة برئاسة سلفا كير، وخلال يومين متتابعين في اجتماعات ثنائية لوحدنا دون وسيط ورئاسة الاجتماعات كانت بالتناوب.. وقلت للرئيس من الأفضل بعد اختيار الإيقاد أن نبدأ من هنا..
هل وافق الرئيس؟
نعم وافق على رأيي... ولذلك اقول إن دخول الإيقاد لم يكن تآمراً من جهة خارجية أو قوى دولية، كان دخولها برغبتنا وتقديراتنا وحساباتنا نحن وليس غيرنا..
لماذ أقدمنا على خطوة مثل هذه في تقديرك في تسليمنا ملف مفاوضات السلام للإيقاد؟
التفكير كان تفكيرًا أمنيًا بحتًا.. بدليل من كانوا مع الرئيس في مقلي ساعة ومكان طرح هذه الفكرة.
ماذا حدث مباشرة بعدها؟ هل باشرت الإيقاد مهامها الجديدة؟
بعد شهرين وبالتحديد في نوفمبر من العام نفسه وفي قمة التجارة التفضيلية لدول وسط وشرق إفريقيا التي عُقدت في العاصمة اليوغندية كمبالا وهي قمة دورية، ذهبنا مع الرئيس وعلى هامش هذه القمة عقد اجتماع لرؤساء الإيقاد، وحضر معنا الاجتماع غازي صلاح الدين، ورأس الإيقاد الرئيس أراب موي، وقدّم فيه الرئيس تصوُّره لكيفية إدارة هذه القضية، متطابقة مع مقترحاتي التي ذكرتها له في الخرطوم، لكن لم يكن هناك شيء مكتوب.. وأهم ما حدث بعد هذا الاجتماع أنه في عشاء في منزل السفير عنايات نفس اليوم وكان هناك بونا ملوال ووقتها كان معارضًا ومع قرنق مقيم في لندن، وكان هناك الدكتور عبد الوهاب الأفندي، وكانت هذه أول مرة يقابل بونا نلوال الرئيس البشير، وقال بونا للرئيس «ناسكم ناس د. علي الحاج ديل ما يتكلموا كتير في موضوع السلام..» وأنا شعرت أن هذا الموضع هو من أفكار الحركة الشعبية التي كانت تريد كل شيء سرياً وخاصاً.. وفهمتُ أنا مباشرة رسالة بونا ملوال، فاقترحتُ على الجلسة أن يكون هناك عمل خاص وقناة خاصة بين بونا ملوال والدكتور غازي صلاح الدين وكان وزير دولة برئاسة الجمهورية لمتابعة الموضوع.. وتمت الموافقة..
هل انتظمت هذه القناة الخاصة للاتصال بين بونا والدكتور غازي؟
لم تنتظم... لأنني قابلت بونا بعد عامين من ذلك اللقاء وسألته فأجاب بأنه من لقاء العشاء على مائدة السفير في كمبالا لم يلتقِ مع غازي ولم تكن هناك قناة خاصة للاتصال بالخرطوم..
ما الذي قامت به الإيقاد؟
حضرنا أول اجتماع للإيقاد في شهر مايو 1994م بمبادرة منا في وزارة الخارجية الكينية بنيروبي، كان الاجتماع في غرفة مكتب صغيرة كان هناك ارتباك حقيقي من الكينيين لأن وزارة الخارجية الكينية لم تكن مستعدة لمتابعة مسألة المفاوضات، وجاء وزير الخارجية الكيني وجلس معنا وصارحنا بأنه ليس لديهم أي تمويل يمكن من خلاله أن يتابعوا هذا العمل.. وليس لديهم مكان ومكاتب تخصص لمن يتابع وينسق من طرفهم وقدم اعتذارات طويلة.. ولذلك لم نعمل شيئًا ولم تفعل الإيقاد شيئًا آخر.. وشعرت وقتها أن هذا الموضوع لن يتقدم للأمام.. كما شعرت لعوامل أخرى خاصة بطبيعة تعاملنا مع هذه القضية أن «ناسنا» في الخرطوم لا يريدون للإيقاد أن تمضي بجدية نحو هدف حقيقي للسلام فهي عندهم مجرد آلية للتمويه أو شيء من هذا القبيل..
لماذا التمويه يا دكتور؟ ألم تكن هناك إرادة وتصميم والسلام خيار لا حياد عنه؟
لأنه في ذلك الوقت بعد أشهر قليلة حدثت الخلافات في وجهات النظر عن جدوى تحركات السلام، وسيطرت مجموعة الحرب والمطالبة باستمرارها على القرار.. كانت هذه المجموعات تريد كسب الوقت لتحقيق نصر حاسم في الميدان العسكري، والدليل بطء العمل وعدم حث الإيقاد على التحرك فالاجتماعات كانت متباعدة ولم يتحقق شيء يذكر.. بالرغم من أنني وعبر طائرة خاصة خصصها لنا الرئيس حملت كل مجلدات ووقائع أبوجا الأولى والثانية وسلمتها لرؤساء الإيقاد ومعي الشهيد موسى سيد أحمد..
كيف دخل أصدقاء وشركاء الإيقاد على الخط..؟
حسب تحليلي أن الإيقاد كانت تريد تمويلاً لتحركاتها وقد صارحنا وزير الخارجية الكيني بعدم وجود بند لتمويل أي تحرك، وربما كانوا يريدون التمويل لأغراض مختلفة، ودخل من هنا أصدقاء الإيقاد، ولا أعرف كيف ظهرت مجموعة أصدقاء الإيقاد، وسألنا عن الموضوع وقالوا لنا إن هؤلاء يريدون فقط المساعدة بالتمويل ولمعرفة ما يحدث.. وطبعاً عندما تقول للأفارقة إن هناك موضوعًا يتعلق بتمويل يهرعون تجاهه بشدة.. وكما أن أصدقاء الإيقاد هم دول بعيدة.. «النرويج، السويد، فرنسا، بريطانيا، إيطاليا» راغبون في التدخل ولا توجد دول من الجوار العربي أو الإفريقي معهم، ثم ظهر شركاء الإيقاد والولايات المتحدة الأمريكية كطرف ثالث...
كيف تدحرجت الأمور من ذلك التاريخ حتى مشاكوس ونيفاشا؟
تركنا الإيقاد تعمل بطريقتها وعملنا على إنجاز اتفاق داخلي بأيدٍ سودانية وداخل السودان، وللحقيقة كان إنجازًا كبيرً للغاية وهو اتفاقية الخرطوم للسلام، وكنت بعيداً عن الملف وشاركت مشاركات طفيفة وضئيلة فيه، لكنه عمل سوداني خالص لا أجانب فيه، دارت فيه مفاوضات في الغابة بالجنوب وهنا في الخرطوم في فندق قصر الصداقة، وقد طلب مني الأخ الرئيس أن ألحق بتلك المفاوضات في مرحلة من المراحل ولم أكن أعرف بتفاصيل كثيرة لأنني في تلك الفترة تركت ملف السلام... لكنه بلا شك كان إنجازًا حقيقيًا.. وكانت اتفاقية فيها جدية ومقبولة لدى الناس لكننا لم نرعاها بشكل جيد ولم نكن جادين فيها وفشلت..
لماذ فشلت ..؟
بعد توقيع اتفاقية إطارية بالناصر في «1/4/ 1996م» لم يتم التوقيع على الاتفاقية الكاملة إلا بعد عام كامل في «10/4/ 1997م»، ويبدو أنه بعد اللقاء السري مع رياك مشار في الخرطوم في «1996م»، كانت تدور اجتماعات أسبوعية كل إثنين في مكتب الأخ علي عثمان وكان وزيراً للخارجية، عقب ساعات الدوام الرسمي، يحضره الشهيد الزبير النائب الأول للرئيس وعلي عثمان وعبد الرحيم محمد حسين وبكري حسن صالح ود. نافع ومطرف صديق والهادي عبد الله وعوض الجاز وآخرون..
ما الغرض من الاجتماعات وهل كنت تشارك فيها؟
في البداية لم أكن مشاركاً لأنني لم أكن أعلم وأعرف عنها شيئاً، وكنت بعيداً من الملف... والشهيد الزبير بعد ستة أشهر من هذه الاجتماعات وهو «زول كويس جداً وجاد وحريص» .. أطلعني على هذه الاجتماعات ودعاني لحضورها وبالفعل حضرتها.. والغريب غازي لم يكن موجوداً فيها بالرغم من أنه كان الأمين العام للمؤتمر الوطني... وسبب غيابه كما بدا لي أن الاجتماعات كانت تصوغ الرؤى الأمنية وليست السياسية، كما أنها كانت شمالية لم يكن فيها جنوبي من الجنوبيين في المؤتمر الوطني.. وحدثت لي مشكلات في هذه الإجتماعات..
ما نوع المشكلات التي حدثت لك أو معك؟
أنا لديّ أشياء أقولها من باب الأمانة والحرص، قلت لهم بعد إعطائي الفرصة في أول اجتماع، لماذ لا يكون معنا من إخواننا الجنوبيين الملتزمين؟ لا يمكن أن يكون هناك سلام بدون الجنوبيين وكان الزبير يوافقني.. وقلت لهم إذا كانت مسألة ثقة فكيف نعمل سلام مع الآخر ونحن لا نثق بمن هو معنا.. واختلفنا في هذا الأمر وقلت لهم سأرفع الموضوع لهيئة الشورى ووافق مجلس الشورى على إشراك الجنوبيين وفي الاجتماع التالي حدث خلاف بيننا وخرج د. نافع من الاجتماع معترضاً على مسار السلام بذلك الشكل، وقال إنه ليس في أمر من هذا النوع... والغريب أن نافع عين مستشاراً للرئيس لشؤون السلام ..! وسألت علي عثمان بعد ذلك في 1999م عن تعيين نافع مستشاراً لشؤون السلام وهو يعلم موقفه، وقال لي إن نافع غيّر رأيه ...!ومجمل الأمر أننا لم نلتزم بالسلام وتنقيذ اتفاقية الخرطوم للسلام وكان هناك تململ من رياك ولام أكول وغيرهم وظهرت آراء تتحدث عنهم بانهم انفصاليون ويجب الإتيان بكاربينو وهو وحدوي ليكون رئيس المجموعة بدل رياك وجيء بكاربينو وحدث ما حدث في بحر الغزال وغضب رياك مشار وخرج ومن معه وتبدد السلام من الداخل...
كيف وصلنا لنيفاشا.. وها هي أبرز ملاحظاتك عليها؟
أولاً المجموعة التي كانت تعيق السلام هي التي جاءت بنيفاشا ولا أقصد الأخ علي عثمان هنا، للحقيقة رغم أنني كنت غير موجود وبعيدًا تماماً عن السودان وأجواء مفاوضات نيفاشا، لدي عدة ملاحظات حولها أجملها في الآتي:
1- كانت هناك تقديرات سياسية خاطئة دفعت الحكومة نحو نيفاشا، منها أن الحكومة أعطت مذكرة التفاهم بين المؤتمر الشعبي والحركة الشعبية قيمة أكبر منها وأهمية لا تستحقها وظنت أن هناك اتفاقًا سريًا بين طرفي المذكرة لإسقاط الحكومة وكان هذا تقدير غير واقعي.. فعمدت لمزايدة سياسية للقفز فوق مذكرة الشعبي والشعبية..
2- جهات غربية ضغطت على الحكومة وطلبت منها الإسراع في عقد اتفاق سلام قبل أن تتبدل الظروف وتأتي مجموعات معارضة أخرى تصل لتفاهمات حول حل قضية الجنوب مع الجنوبيين، وهذا كان دافعًا للتعجل والهرولة..
3- يبدو أن جهات لم تكن راضية عن توجهات غازي صلاح الدين والطريقة التي كان يعمل بها في مشاكوس وإدارته للتفاوض وكان لدى غازي حذر وتدقيق كثير، فطلب النرويجيون وجهات غربية أخرى أن يأتي شخص آخر أكثر تفويضاً ويمثل الحركة الإسلامية... وهناك أشياء كثيرة في هذا الصدد وأسرار كثيرة، لكن المهم أن الدول الغربية لم تكن متحفظة كثيراً على علي عثمان ليقود التفاوض، وكان قرنق وبقية قيادات الحركة الشعبية في البداية غير راضين عن مجيء علي عثمان، وقالوا لي إنهم لم يرغبوا في البداية حتى في لقائه.. وقالوا كلامًا كثيرًا جداً.. حتى جاءت المواجهة الشهيرة في رمبيك التي انصاع فيها قرنق لرأي الاجتماع وذهب للمفاوضات وعندما قابل علي عثمان في كينيا عاد وهو متحمس للمضي في الاجتماع وقال إن وضعهم في المفاوضات سيكون أفضل.. وأفضل من محاوراتهم مع غازي..
لماذ كان هذا الرأي؟
الأخ علي عثمان قيادي وسياسي لكنه ليس مفاوضاً..
هل كانت هناك ضغوط غربية للوصول لاتفاق بأي ثمن في نيفاشا؟
هناك أشياء كثيرة حول نيفاشا وصناعها تحتاج لمعرفة دقيقة وليس تخمينات، وهناك مسائل لا أدري حتى اليوم لماذا وافق المفاوض السوداني عليها ولماذا تمت بهذا الشكل؟
ما هي هذه الأشياء؟
أشياء لا يمكن الموافقة عليها بسهولة وتستغرب عندما تنظر إليها، ولو لاحظت أن الديباجة بالاتفاقية ذات الطريق الواحد، تتحدث عن الوحدة، لكن في الواقع الاتفاقية كانت انفصالية لا جدال حولها فكل تفاصيلها وتطبيقاتها تشجع على الانفصال، جيش منفصل ونافذة بنك مركزي، عملة، وحدود وعلاقات خارجية ، وطبيعة حكومة الجنوب الإقليمية وصلاحياتها وسلطاتها وعلاقاتها بالحكومة الاتحادية... ونيفاشا مصممة كلها على تحقيق شيء مغاير لشعارات وتوجهات حوتها هذه الاتفاقية فهي لم تجلب سلاماً في النهاية ولم توقف الحرب..
هل ذلك بسبب أخطاء تفاوضية من المفاوض الحكومي؟
في تقديري أن المفاوض السوداني لم يكن يدرك الأبعاد الخطيرة في الاتفاقية وكان هناك استعجال للوصول لاتفاق بأي طريقة وأي ثمن كما ذكرت.. وهرولة نحو السلام.. وهي اتفاقية لا توجد فيها أية احتمالات ولا خيارات، هي مثل الزواج الكاثوليكي، تتحدث عن وحدة دون أن تكون هناك ترتيبات وتوقعات لما يمكن أن يحدث في حالة الانفصال، وما يدور اليوم هو نتاج هذه الأخطاء الكبيرة وهذا الزواج الكاثوليكي والطريق ذي الاتجاه الواحد..
ما هي الترتيبات والتوقعات التي تعتبر عدم التحوط لها أخطاء؟
هناك أشياء كبيرة جداً.. فمثلاً في موضوع قسمة الثروة، البترول كان يمكن أن يتم الاتفاق حول نسب قسمته بمدى ومواقيت أطول من سنوات الفترة الانتقالية الست، لم تكن المفاوضات حوله عميقة ولا جادة وكان يمكن أن تستمر هذه القسمة لسنوات طويلة حتى لو حدث انفصال ولم ينتبه المفاوض الحكومي لخيار الانفصال عندما وضعت صيغة قسمة الثروة، والخطأ عند المفاوض كان الاعتقاد بأن الوحدة قادمة لا محالة، فهل يعقل أن تعطي شخصاً قسمة في مائة جنيه أن يأخذ الآن خمسين وهو معك وبعد مدة محددة سيأخذ المائة كاملة فسيختار حتماً خيار المائة بدل الخمسين.. كان هناك إغراء للجنوبي بأنه سيعطى بتروله وسيكون له جيشه وكيانه الخاص... لكن هناك في نيفاشا ما هو أخطر..
ما هو الأخطر؟
الأخطر في نيفاشا أنها اتفاقية بلا وقائع ولا وجود لمحاضر حتى تكون مرجعية ترجع لها... ماذا قال هذا وبماذا رد ذلك.. هذه الوقائع مهمة للغاية لأنه يتم الرجوع إليها في حال الاختلاف حول التأويل والتفسير لنصوص الاتفاقية ...كيف يمكن أن لا تكون هناك وقائع في موضوع مصيري وتاريخي..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.