يقولون إن غربة الدار والأهل هي أسوأ وقعًا وتاثيرًا على الغرباء وبالقدر الذي يفوق تأثير الغربة في بعد الوطن تلك هي أقدار المهاجرين يحصدون العذابات ودائمًا ما تدفعهم ظروف الغربة إلى نيران الداخل وحرمان الخارج والقضية التي نحن بصددها الآن تتعلق بتعليم أبناء المغتربين خاصة أولئك الذين ترغب أسرهم في أن يلتحقوا بسلك التعليم على المنهج السوداني حتى لا تكون الغربة «غربتين» غربة في بعد الوطن وغربة عن التقاليد والقيم والمناهج السودانية وسلوكيات الحياة وهذه لا تتأتى إلا عبر الالتحاق بالجامعات السودانية والتي تختلف ظروفها ومقوماتها عن تلك البيئة الدراسية في بلاد المهجر، بل إن الظروف والأمزجة قد تتقاطع وتتصادم والحقيقة البائنة أن عددًا من المهاجرين السودانيين آمنوا تمامًا بفكرة تعليم الأبناء داخل السودان لاعتبارات خاصة ولكن دون أن يدرك هؤلاء تمامًا ما يحيط بهذه الجامعات، فالطلاب هنا في السودان من حملة مؤهل الشهادة العربية يعيشون غربة حقيقية فهم كما القادمين من كوكب آخر هكذا ينظر إليهم يحاولون الاندماج في المجتمعات المحلية ولكن الفكرة تسقط ويفشلون وتتسع الهوة بينهم وبين أولئك الطلاب خاصة الذين قدموا من الأقاليم السودانية المختلفة.. المزاج ليس هو ذاك المزاج السوداني، فالطلاب المغتربون أولوياتهم مختلة ومطالبهم بلا سقوف تمامًا كما في بلاد المهجر يحاولون إعادة إنتاج أو استنساخ كل ما هو متاح بين يديهم في المهجر من مشهيات أو مغريات وملهيات حتى يجدوها في السودان، غير أن كثيرًا من الآباء المغتربين أدركوا حقيقة وخطورة الزج بأبنائهم في بيئة لا يألفونها ولا يعلمون مكوناتها فتراجعوا عن فكرة تعليم الأبناء في الجامعات السودانية رغم أن جهاز المغتربين أنشأ جامعة المغتربين داخل السودان للحد من ظاهرة «التغريب» خاصة أن هؤلاء الطلاب يدرسون في جامعات المهجر كل ما يخص تاريخ وجغرافية وقيم ومفاهيم تلك الدول الأمر الذي يجعلهم في حالة غربة داخلية ومواجهة حقيقية حينما يستقر بهم الحال في السودان ولعل الخطر والهاجس الكبير الذي ربما يقلق أسر المغتربين أن أبنائهم في الجامعات السودانية يحتاجون إلى رعاية مباشرة من والديهم فهم في سن عمرية بالغة الخطورة وليس كافيًا أن توكل الرعاية للأهل أو الأسرة الممتدة من العم والعمات والخالات فهناك شواهد كثيرة تؤكد أن أبناء المغتربين لديهم من السلوكيات والعادات التي ربما لا تقبلها الأسرة الممتدة، والطامة الكبرى أن داخليات الطلاب التي دائمًا ما يلجأ إليها طلاب الشهادة العربية عندما يصعب عليهم التعايش في واقع استثنائي وغريب عليهم وهنا تعقدت القضية وتزايدت معدلات الخطورة على هؤلاء الطلاب، وكثير من الظواهر تشير إلى أن الطلاب في الداخليات باتوا عرضة للوقوع فيما عرف بظاهرة الزواج العرفي. طيات السحاب...إبراهيم أرقي المرأة السودانية في ديار الغربة تمثل ركيزة أساسية في حياة الأسرة وتقوم بدور متعاظم في تماسك الأسرة ومواجهتها لواقع ينشأ فيه الأطفال مخالف لذاك الواقع الذي يفترض أن يعيشه في وطنه حيث تختلف هنا العادات والتقاليد والأخلاق وطريقة الحياة. وحقيقة أن تربية الأبناء في الغربة هي من أصعب أنواع التربية حيث تواجه الأسرة ضغوطاً كبيرة في سبيل أن ينشأ الطفل يحمل عادات وتقاليد بلده ولا ينجرف مع تيار الحداثة الذي يحيط به في تلك الدول. فنحن أمام معادلة صعبة في التربية حيث لا تستطيع أن تطلق لأبنائك العنان ليخرجوا ويدخلوا ويلعبوا كما يشاءون مثل ما يحدث في السودان، وأيضاً لا تستطيع أن تسجنهم في شقة لا تتعدى مساحتها «150» مترًا كل الأسبوع لتخرج بهم نهاية الأسبوع ثم تعود بهم إلى (السجن). وأمام هذه الحالة نحن ملزمون بأن نجهز لهم البيت من كل أنواع الألعاب والإنترنت والتلفزيون وغيرها من الملهيات لكي تضمن حياة شبه هادئة ولكنها بالتأكيد على حساب الكثير من حياة هؤلاء الأطفال المظلومين. وهنا يبرز دور الأم خاصة في فترة الإجازة حيث تواجه هذه الأم ضغوطًا شديدة في رعاية أطفالها والقيام بواجباتها المنزلية وتتضاعف هذه الواجبات فترة الامتحانات فهي تكون بمثابة المعلمة خاصة مع انشغال الرجل في العمل. وبالرغم من أن هذا الوجود المستمر للطفل أمام عينيك يجعلك تضبطه وتراقب تصرفاته وتقف على احتياجاته ولكنها عملية مرهقة للأسرة؛ لأن للأطفال طاقة كبيرة مختزنة فيهم ولا يجدون مساحة يفرغونها غير هذه المساحة الصغيرة من البيت لذلك تجدهم كثيري الحركة والمشاغبة مع بعضهم البعض مما يخلق نوعًا من عدم الاستقرار في المنزل ويؤثر ذلك في راحة بقية الأسرة، مما يضطر بعض الأسر ترك أبنائهم يسهرون الليل حتى الصبح لكي يناموا نهاراً فتنقلب الآية عندهم ليلهم نهار، وهذا بالتأكيد له تأثير كبير في صحتهم وتفكيرهم فيؤدي ذلك إلى قلة تركيزهم وعدم تعرضهم لضوء الشمس مما يقود إلى مشكلات صحية. وأنت لا تستطيع أن ترد لهم كلمة ولا تستطيع أن تلومهم على ما هم فيه من ملل؛ لأن الحياة حقيقة في سجن كهذا تصيب الإنسان بالملل وتجدهم كثيراً ما يتعلقوا بك للخروج معك لأي مشوار وأنت ملزم بأن تأخذهم معك حتى توقف طاحونة الملل التي تصيبك أنت أيضاً بالملل فتنتقل العدوى لك.