هل استنفدت الحكومة كل خياراتها والبدائل، واستفرغت كل وسعها في الاجتهاد، حتى تلجأ للقروض الربوية متكئة على حائط فقه الضرورة؟؟!! كما أشارت فتوى اعتمدت عليها قبل أيام في جواز أخذها لقرض من الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي بمبلغ «50» مليون دولار تسدد على مدى«21»عاماً بفائدة «2,5%»، لصالح مشروعات سدود وحفائر وحصاد المياه في عدد من مدن الولايات الحدودية، وهي النيل الأزرق والنيل الأبيض وسنار وجنوب كردفان وشرق دارفور وجنوبها.. وقد وافق لها البرلمان على ذلك بذات الحجة تحت راية فتوى يقال إنها صادرة من مجمع الفقه الإسلامي ..!! حتى الآن لم نتوفر على نص كامل للفتوى التي أشارت إليها الحكومة في إباحتها التعامل الربوي في هذا القرض الذي حمّل رئيس اللجنة الاقتصادية بالمجلس الوطني مسؤوليته الشرعية للحكومة كالمتبرئ منه، وفرّ من تبعاته فرار الصحيح من الأجرب... بالرغم من أن المجلس الوطني ونوابه يتحملون المسؤولية كاملة وما يترتب عليه من حكم شرعي. ولم نطلع على الفتوى ونصها بكل تبريراتها وتعليلاتها وحيثياتها وأحكامها الشرعية الصادرة عن مجمع الفقه الإسلامي والإفتاء الشرعي، أو نص يحوي المجادلة الفقهية حول جواز القرض الربوي في حالة الضرورة من عدمه.. كل ما حدث أن الحكومة اعتمدت على ندوة عقدت في البرلمان تحدث فيها بعض أعضاء مجمع الفقه انطلاقاً من آراء خاصة غير مجمع عليها، ولا استندت على فُتيا تم تحريرها بالنقاش والأخذ والرد بين جمهرة من علماء المجمع وهيئة علماء السودان، ولا انعقد مجمع الفقه بكامل هيئته وعلمائه للتشاور في استفتاء الحكومة له في أمر هذا القرض، الذي قدّرت فيه الحكومة قرارها على قاعدة «أخفّ الضررين». ويثار جدل كثيف حول إباحة القروض الربوية للحاجة الماسة والضرورة الجالبة للضرر، واختلف الفقهاء حول ذلك، بعضهم وضع شروطاً وضوابط في التعامل مع مثل هذه القروض الربوية في حالة الضرورة؛ وحال الضرورة هي الحال التي يخاف معها على المكلف من الهلاك، أو ضرر شديد، أو تلحقه مشقة لا يمكنه احتمالها. وبعضهم لم يقل بجوازها واعتبره حراماً منهياً عنه لا يجوز.. وقارب الفقيه أبو عبد الله الزركشي في «المنثور في القواعد» بين فهم الضرورة وضوابط العمل بها وما يتبعها بقوله: « فالضرورة: بلوغه حدّاً إن لم يتناول الممنوع هلك، أو قارب؛ كالمضطر للأكل واللبس، بحيث لو بقي جائعاً أو عرياناً لمات، أو تلف منه عضو، وهذا يبيح تناول المحرم.. والحاجة: كالجائع الذي لو لم يجد ما يأكل لم يهلك، غير أنه يكون في جهد ومشقة، وهذا لا يبيح المحرَّم»... وجمهور العلماء ينظر للضرورة بأنها «تقدّر بقدرها»، والحكومة التي قدّرت الحاجة في هذا القرض، لا ندري كيف حددت حجم الضرر الدافع للضرورة؟؟ واللجوء للرخص دون العمل بالعزائم في هذا الأمر الجلل ..!!! والملاحظ أن التقدير السياسي وليس الشرعي، هو الذي جعل الحكومة تتمدد مطمئنة على بساط بلاستيكي مطاطي لزج، جاعلة من القاعدة الفقهية «الضرورات تبيح المحظورات» جسراً للعبور فوقها لتصل لبر الإباحة وتحل ما حرم الله وأذن فيه مرتكبه بالحرب منه ومن رسوله ..!! ولم تصل الحاجة والضرورة الشرعية الجماعية في البلاد لمرحلة الهلاك المبين كما قال السيد أحمد إبراهيم الطاهر رئيس المجلس الوطني الذي ربط القرض الربوي بذهاب الدولة وهلاكها إن لم تجزه، وإذا كانت الدولة هلاكها في مبلغ الخمسين مليون دولار المقدمة كقرض ربوي من الصندوق العربي فما أبخس أثمان بقائها ...!! ويبدو أن هذه المسألة وتعقيداتها ستأخذ حيزاً أكبر في اجتهادات المجتهدين، فهيئة علماء السودان في بيانها الصادر أمس، قالت رأيها في أي فتوى تصدر من هذا النوع، وكما علمنا فإن مجمع الفقه الإسلامي لديه بيان حولها، ونحتاج نحن العامة وغمار الناس وسابلتهم لمعرفة الرأي السديد في هذه القضية الخطيرة وطرحها للنقاش العام حتى نتبين المتشابهات من الحرام البيِّن والحلال البيِّن، وحسب العلم البسيط الذي لدينا لم تبلغ فيها الولايات المشار إليها حد الضرورة المهلكة. ولربما يكون هناك سؤال بسيط للغاية.. لماذا القرض السابق الذي أثير حوله ذات الجدل قبل سنوات وهذا القرض الجديد لصالح جهة واحدة فقط؟؟؟؟ وإذا استمرت الحكومة أن تؤتي الرخص وتتعامل بفقه الضرورة سيتلاشى الحرام في الحلال ولن يجد الناس منكفة في عدم اجتناب المحرم والمحظور .!