من أكبر الأخطاء التي تقع فيها غالبية الاقتصاديات النامية والتي في طور النمو اعتقادها أنها وللعديد من الأسباب ستظل بعيدة عما يجري من حولها في عالم الاقتصاد . ذلك أن هذا الأمر قد كان معقولاً ومقبولاً في فترة من الفترات لم يكن فيها العالم كما هو عليه الآن منفتحاً على بعضه البعض بصورة لم يسبق لها مثيل، وأصبحت اقتصاديات الدول شبكة واحدة ممتدة، بحيث أصبح ما يحدث في جزيرة صغيرة في أعلى البحار يمكن أن يؤثر على اقتصاديات قارة بأكملها بل وأكثر من ذلك، وهو ما أثبتته من قبل حالة الكساد الكبير التي أصابت العالم في ما بين الحربين العالميتين في مطلع الثلاثينيات من القرن الماضي، وذلك من قبل الثورة المعلوماتية والانفتاح الكبير الذي غير وجه كل شيء وأثر على كل شيء حتى التجارة والاقتصاد. ولم يشهد العالم مثيلاً لما جرى في الثلاثينيات إلا أخيراً في الألفية الجديدة، حيث تعرض الاقتصاد العالمي لنكسة هائلة تسببت في انهيار إمبراطوريات مالية كانت ملء السمع والبصر حتى وقت قريب. ووصلت تكلفة إنقاذها إلى تريليونات الدولارات، مما أدى إلى انكماش مالي واقتصادي هائل انعكست آثاره على كل شيء، فتضررت البلدان النامية وهي التي لا ناقة لها ولا جمل في ما يحدث عالمياً تضررت وتراجع الاستثمار الأجنبي بها إلى مستويات مؤثرة أدت في ما أدت مقترنة بالعديد من العوامل المرتبطة إلى تبديد مواردها، وأصابت مجتمعاتها بالهشاشة والتفكك، حيث أصبح هناك ما لا يقل عن مائة مليون شخص في العالم في حالة فقر مدقع. وانعكس كل ذلك على أسواق العمل بها، فوصل عدد العاطلين عن العمل في العالم في أعقاب الأزمة المالية للعام 2008م، وبحسب تقديرات منظمة العمل الدولية، إلى ما لا يقل عن «200» مليون شخص. وأكد خبراء الاقتصاد العالمي أن كل ما حدث كان يمكن تلافيه لو التزمت المؤسسات المالية بالضوابط التنظيمية لتدفقات رأس المال والمضاربات المالية، وهو ما أدى إلى تحول الأسواق والمؤسسات المالية إلى غول ابتلع الاقتصاد العالمي ثم لفظه بعد أن تسمم جراءه، وفي ذات الوقت أفقده القدرة على الحياة الطبيعية، وثبت جلياً بعد ذلك للمراقبين والاقتصاديين أن ترك الأسواق لتنظم أمرها بنفسها أدى إلى ظهور عوارض مميتة وكارثية على اقتصاديات الدول، لا تؤثر فقط على الحاضر بل يمتد تأثيرها إلى المستقبل البعيد. وهو ما يقود إلى محاولة دراسة أثرها على التنمية المستدامة التي أصبحت تتطلع لها الدول بعد الوعي التنموي الكبير الذي أدركه العالم أخيراً، والذي أثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن السياسات الحالية التي تسير عليها غالبية دول العالم والتي لا تعتمد معايير اقتصادية واجتماعية تعني بالتنمية المستدامة والتي تعرف بأنها التنمية التي تلبي احتياجات الجيل الحاضر دون التضحية أو الإضرار بقدرة الأجيال القادمة على تلبية احتياجاتها هذه السياسات تعمل على تدمير أسس البنية الاقتصادية والاجتماعية التي يعتمد عليها في الحاضر وبذات القدر في المستقبل، وذلك كله من أجل تحقيق أعلى درجات الاهتمام بالإنسان الذي هو أساسها وهدفها الأول، عن طريق تحقيق واقع يلبي احتياجاته الحياتية من مسكن لائق وبيئة صحية وتعليمية واجتماعية جديرة بإنسانيته. وفي ذات المسار ولأجل ذات الأهداف، أصبح الآن هناك تيار عالمي يقوده ناشطون ومنظمات يعملون على تطوير سياسات بديلة من أجل تقليص هيمنة القوى الاقتصادية العالمية على اقتصاديات الدول النامية والأقل نمواً، من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية على مستوى العالم، فبعد التوقيع على الاتفاقية العالمية للتجارة والتعريفات «الجات» في نهايات الأربعينيات من القرن الماضي، والتي هدفت إلى تحرير التجارة الدولية وتنميتها لصالح الدول الأعضاء مما أدى إلى زيادة تحكم الدول الصناعية والمتقدمة في الاقتصاد العالمي الذي أصابته «لعنة العولمة»، فأصبح محتكراً لدى فئة تملك كل شيء وتملي إرادتها على بقية دول العالم بلا مراعاة لحاجات هذه الدول وشعوبها، بل أصبحت تمارس عليها أنواع من الابتزاز الاقتصادي لمقابلة حاجاتها المتزايدة. نقول، بعد تنزيل هذه الاتفاقية على أرض الواقع العملي كان لا بد من إيجاد سياسات جديدة تؤدي إلى خلق منطقة وسطى يتلاقى فيها العالمان من أجل تحقيق العدالة في النظم التجارية وما يرتبط بها من سياسات تمويلية ونقدية وغيرها، ولرفع سقف الفرص المتاحة في مجالي التجارة والتنمية للدول النامية، مما يؤدي بالتالي إلى أوضاع أكثر اتزاناً ما بين اقتصادياتهما التي تتسع الهوة بينها يوماً وراء الآخر. وقد أثارت الكثير من الدراسات التي قام بها باحثون وخبراء عكفوا في السنوات الأخيرة على دراسة مجمل الأوضاع الاقتصادية في الكثير من دول العالم النامي، أثارت الانتباه إلى عدد من الممارسات التي تؤثر سلباً على اقتصاديات هذه الدول. ولعل ما يأتي في مقدمتها إذا ما استثني الفساد المالي والإداري هو ميل مؤسسات التمويل إلى القروض الاستهلاكية للأفراد والحكومات على حد سواء، والتي أدت إلى زيادة استهلاك السلع الكمالية الاستهلاكية، ومن ثم توجيه الأرباح نحو استخدامات أقل إنتاجية، مما قاد إلى أن يتميز التخطيط الاقتصادي لهذه الدول بمحدودية في النمو، ولهذا تؤكد هذه الأبحاث أن من أوائل العوامل التي تعمل على إنعاش الاقتصاد في الدول النامية، هو أن تقوم المصارف التنموية الوطنية بتقديم قروض طويلة الأمد للشركات ذات الطابع الاستراتيجي، والمشروعات التي تعنى بالبنيات الأساسية، والصناعات ذات الأولوية، والقطاعات الفاعلة في اقتصاد الدولة كالتعليم والصحة والسياحة وغيرها. وأشار عدد من التقارير أعدها خبراء في مؤتمر الأممالمتحدة للتجارة والتنمية «الأونكتاد» إلى أن الميول التحولية للعديد من دول العالم النامي عن التصنيع على مدى الأربعين عاماً الماضية، أدت إلى إنتاج سلع غير قابلة للمنافسة في الأسواق العالمية، وغير قادرة كذلك على منافسة السلع المستوردة على المستوى المحلي، وأفرز ذلك ما يمكن أن يطلق عليه «خسائر جانبية» كثيرة لعل في مقدمتها تضييق فرص العمل وزيادة العطالة، مع ما يجره كل ذلك على معدل النمو الاقتصادي في هذه الدول. إن أية محاولة جادة لإصلاح الوضع الاقتصادي لا بد أن تستصحب العديد من تجارب الدول التي استطاعت إيجاد مكان لها تحت الشمس، وقفزت من دول مهمشة اقتصادياً إلى دول هي ملء السمع والبصر الآن. وبالضرورة إذا كان لنا أن نحفر هذا المكان لبلادنا لا بد أن تصدق النوايا بدءاً، ثم لا بد من بعد ذلك من ربط كل حركة الاقتصاد بالدراسات والبحوث، وإشراك العقول الاقتصادية داخلياً وخارجياً في هذا الأمر، مع العمل على الدخول في تكاملات واندماجات اقتصادية دولية أصبحت هي سمة الاقتصاد في عالم اليوم.