كانت قد مضت عليه في هذه المدينة نحوٌ من سنتين منذ أن قدم إليها منقولاً.. كل الزملاء الذين تركوا عائلاتهم في العاصمة أو مدن الوسط الكبرى وأريافها ... حظي كل منهم بإجازتين أو ثلاث وفقاً للجدول المُعد والخاص ببرمجة إجازات الضباط من مدير الشرطة... الوحيد الذي لم يغادر الفاشر مُنذ أن وطئت قدماه بحيرة الطين التي لا مناص من عبورها «خوضاً» والتي تتوسط الموقف الخاص بالباصات السفرية شمال شرق المدينة... كان هو!!! ولهذا فإنه عندما فاض به الحنين للأهل والأحباب في ديم الخرطوم لم ينتظر حتى يقدم طلباً للإجازة ولكنه شرع فوراً في إعداد حقيبته التي أخذها معه صباجاً وهو في طريقه للمكتب وقد دس في جوفها كامل المبلغ الذي ادخره بعد استثناء مبلغ معتبر للهدايا التي سيأخذها معه من خيرات دارفور مع قيمة التذكرة ومصاريف الرحلة أودعه في محفظته التي قام بوضعها في الجيب الأيسر من لبسته السفاري التي هي واحدة من ثلاث خصصها لعمله كحكمدار لمباحث الإقليم. وصل باكراً لمكتبه، وضع حقيبته خلف المنضدة وشرع في كتابة طلب الإجازة على ظهرها، وكان طلباً مُسبباً ومنطقياً لإجازة مستحقة لضابط مكث في محطته لما يقارب العامين، أرسل الطلب لمكتب المدير ومن ثم طلب قهوته الصباحية والتي ما إن انتهى من ارتشافها حتى جاءه الرد برفض الطلب لظروف المدينة الأمنية التي كانت أكثر أماناً من أم ضواً بان في ذلك الآوان!! اجتمعت كمية من المرارات في حلقه واسودت الدنيا في عينيه للحظات... ولكنه سرعان ما عاد مع نفسه على حقيقة واعدة وثابتة وهي: «إن القدم ليهو رافع» وأن الخير فيما اختاره الله، وأقنع نفسه بأن سفره في هذه الأيام هلاك محقق بهذه البصات المتهالكة التي هي أصلاً لواري تم تعديلها لنقل البشر خاصةً وأنه تعافى منذ يوم أو يومين من مرض الملاريا اللعين وسفره في هذه الأيام وبهذه الوسيلة مع الطرق الخريفية الوعرة قطعاً سيجددها له الأمر الذي سيحول إجازته مع الأهل لحمى وممارضة.. تحرك من مكتبه واستقر في الكرسي المتهالك قرب الباب في مكتب ضابط الإدارة ونظر ناحية البوابة الرئيسة التي خرجت منها للتو عربة المدير اللاندروفر الإستيشن حيث كان في طريقه لاجتماع برئاسة الإقليم في ذات اللحظة دخل طفل بثياب رثة بعضها في جسده وبعضها الآخر مجرجراً خلفه وحواليه ويحمل مخلاة في كتفه مسنودة بيده اليسرى التي تحمل في ذات الوقت بقية من خبز جاف منظره يبعث على الرثاء والحزن والشفقة أكثر من أوليفر تويست نفسه أو أحدب نوتردام.. توجه مباشرة إلى حيث يجلس محدثي وكأنه مرسل له شخصياً لم يوقفه حرس البوابة ولا القرقول... وقف أمامه ومد يده اليمنى دون أن ينبس ببنت شفة... أخرج ذات المحفظة التي أودع فيها مصاريف الرحلة وتكلفة الهدايا المحمولة للأهل وأفرغها برمتها في يد البائس السائل الذي ألجمته المفاجأة وهو ينظر للمبلغ الكبير الذي وضع في يده ولم يسبق أن تلقى في حياته مبلغاً مماثلاً له. خرج من المكتب مسرعاً حتى وصل منتصف الفناء الفاصل بين البوابة الرئيسة والمكاتب ثم دلف عائداً إليه وقال في وجهه «ربنا يفتحا عليك » كررها ثلاث مرات!!! ومضى!!!! قال محدثي: خرج ذلكم الطفل البائس المذهول من البوابة واستقبلته هناك امرأة شديدة البؤس وكأنها عائدة من الموت، نظرت للمبلغ في يد ابنها ولم تقوَ رجلاها على حملها فتهاوت على الأرض وهي تحتضنه في ذات اللحظة دخلت عربة المدير توسطت العربة الفناء قرب سارية العلم ونزل منها سيادته وأرسل في طلبي حيث قال: «إجازتك مصدقة وهي أصلاً لم ترفض ولكني رأيت أن أعلمك درساً مفاده أن الذي يطلب الإجازة لا يحضر بحقيبته للمكتب وكأن التصديق عليها أمر مسلم به يناله وقتما شاء وأنا أعلم بأنك من أخلص خلصائي وأميز ضباطي وأكثرهم مثابرة واجتهاداً وصبراً ويعلم الله أنني ماخرجت من مكتبي إلا لأحجز لك مقعداً في طائرة برنامج التنمية والتعمير لتسافر مع وفدها العائد للخرطوم والآن لديك منحة في مكتبي خذها وتوجه إلى حيث الطائرة التي ستغادر خلال ساعة من الآن!!! قال: طفرت مني دمعات ساخنات وأنا أمد يدي مودعاً سعادته وجالت بخاطري صور شتى!! العطاء والصبر والشرطة ورجالها الآباء الأوفياء والأهل والأحباب والنيل وقوله تعالى «وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لاتظلمون». ذلك القائد المربي هو العميد محمود حامد حماد كما قال محدثي الذي هو بطل قصتنا الواقعية هذه المقدم حينها عمر جعفر محمد عثمان الذي قال أيضاً إن الدنيا من يومها فتحت له أبوابها حتى إنه عندما نُقل بعد سنوات طوال من موقعه كمدير لشرطة ولاية الخرطوم للحياة البرية جاءته وفود من المعزين لم يقل لهم إلا أن الخير فيما اختاره الله وكان الخير كبيراً وعميماً حيث أتاحت له هذه الإدارة السفر لبلدان في كل أرجاء الدنيا لم يكن يحلم يوماً بالنزول في أرضها واطلع من خلال هذه السياحة على عجائب وآيات من صنع الله لم تتح لغيره في الأمازون والمتجمد الشمالي وآسيا الوسطى. محميات ومنتجعات وبحار دافئة ومؤتمرات وسمنارات واتفاقيات ومنظمات بيئية تُعنى بالطيور النادرة والهجرات الحولية والقرندس البحري وتماسيح المياه المالحة والثعابين والحيات النادرة والمهددة بالانقراض والفيلة الآسوية والإفريقية والغوريلا والقردة والهررة الجبلية والغابية والدب القطبي والإستوائي الأبيض والأسود والبني والبنفسجي «دا بالذات ما عارف في ولا مافي» .. وكان الفتح الكبير الانتقال من هذه الإدارة ذات الخمس نجمات لرئاسة الشرطة كرجل ثانٍ فيها نائباً لمديرها العام ومفتشاً عاماً لها.