من أغرب الأمور التي درج عليها الخلق المتخاصمون المتقاتلون في أي مكان وزمان من هذا العالم أن الناس عندما يختلفون يبدأون يتقاتلون وقد يستمر القتال مائة عام ويأتي جيل من بعد جيل ليرث ذلك القتال، وهناك من يموت وهو قد ولد في قتال ومات دون أن ينتهي القتال ولن يكون قد رأى يوماً من أيام السلام. وعندما يُفني الناس بعضُهم بعضاً وعندما يثخنوا في الأرض وتخور قواهم يلجأون للحوار والمفاوضات. عجيب أمر هذا البني آدم! أما كان الأجدر أن يبدأ بالمفاوضات والحوار حتى إذا انسدت الطرق وضاقت بما رحبت من اختلافات ولم يعد هناك مجال لغير القتال لجأ للبندقية لتحسم «حجة وحوار»؟ قس على ذلك جميع الحروب الأهلية والإقليمية حيث تأخذ العزة بالمكابرة جميع الفرقاء ولا تترك لهم شيئاً يمتهنونه غير القتال. وكان من الممكن أن يلجأ الناس في الجنوب لطرح مخاوفهم من الشمال عام 1955 للحوار والتفاوض حتى إذا جاء الاستقلال كانت مخاوفهم قد تم استيعابها في اتفاقية تُرضي الجميع. ولكننا في الجنوب والشمال آثرنا أن نتقاتل لمدة تزيد على الخمسين عاماً وعندما أنهكنا لجأنا للتفاوض وجاءت من داخل ذلك التفاوض اتفاقية نيفاشا التي لم تحقق السلام الذي كنا نصبو إليه. لقد برز الشاعر الكبير شمس الدين حسن الخليفة شاعراً معتداً بوطنه داعياً للصلح والتصالح في عدد كبير من قصائده التي ضمنها في كتابه «بلدنا حبابا» والأغاني الوطنية هي الحداء الذي تسير به قافلة الشعب نحو تحقيق غاياتها وعندما كتب شاعرنا قصيدته «مرحبتين بلدنا حبابا» عام 1970م وغناها الفنان الراحل المقيم حسن خليفة العطبراوي ربما لم يكن يدري أنها ستكون حداءً تترنم به الأجيال لأنه يعبِّر عن وجدانها بلغة بسيطة آسرة مؤثرة ولو كنت مسؤولاً عن الطيران المدني أو جهاز المغتربين لكتبتها على لوحة كبيرة وجعلتها ترحاباً لكل عائد إلى أرض الوطن.. وهي أبلغ في مدخلها الأصلي.. فعندما عاد الشاعر من بعثة دراسية من الإسكندرية وصل مطار الخرطوم في يوم مثل هذه الأيام التي تكثر فيها الكتاحة والغبار فقال له ولده الصغير أحمد: يا أبوي ليه تجيبنا من البلد السمحة ديك.. للتراب والغبار دا؟ فكتب الشاعر: مرحبتين بلدنا حبابا.. كان بسموما كان بترابا ولكن الفنان حسن خليفة العطبراوي رحمه الله غيّر هذا المقطع إلى: مرحبتين بلدنا حبابا.. حباب النيل حباب الغابة وفي رأيي أن المطلع الأصلي أبلغ. والآن نحن نلجأ للشاعر شمس الدين متعه الله بالصحة والعافية لنقرأ معه في داخل سطور قصيدته «بالغير ما اتعظنا».. كنا بنصالح البتعادوا نحن زمان وكان مضرب مثل في خوتو السودان وكانت في بلدنا الشورى ليها مكان وما كان الخلاف في الرأي بجييب نيران نقول فاتوا الكبار، وفضلنا نحن صغار؟ وما بنفرز بقينا الموية من النار؟ نحن الكنا بنجير البعيد والجار بقينا الليلة ساعين لي خراب الدار الشعب العشانو أنحن متكاتلين هو الخسران حقيقة ونحن متغابين قلنا محاصرين... للوحدة محتاجين ترانا بندي فرصة كبيرة للحاقدين من هنا أو هناك حطب الوقود أولادنا والعار والدمار لاحق بكل بلادنا التاريخ بسجل وبحكي لي أحفادنا كيف بقت الضغائن والتناحر زادنا وين نصرة أخوك لو ظالم أو مظلوم كلنا نحن ظالمين والنصير معدوم ظلمنا بلدنا ماشين في طريق مشؤوم بالغير ما اتعظنا وفوقنا حام البوم معروف الرجوع للحق جميل وفضيلة قولة أنا كنت غلطان حاشا ماها رذيلة لا تضيع الفرص أمشوبنا سكة عديلة من قبال نضيع ونقول بلدنا حليلا فلله درك أخي شمس الدين.. لقد كنت دائماً متصالحاً مع نفسك ومع وطنك ومع الآخرين.. والآن تدعو للتصالح وليس هناك قيمة أعلى من التصالح.. لأنه بدونها لن نحقق شيئاً للوطن. آخر الكلام: دل على وعيك البيئي.. لا تقطع شجرة ولا تقبل ولا تشترِ ولا تُهدِ هدية مصنوعة من جلد النمر أو التمساح أو الورل أو الأصلة أو سنّ الفيل وليكن شعارك الحياة لنا ولسوانا. ولكي تحافظ على تلك الحياة الغالية لا تتكلم في الموبايل وأنت تقود السيارة أوتعبر الشارع. وأغلقه أو اجعله صامتاً وأنت في المسجد.