أورد أبو عبيد القاسم بن سلام في سفره المتفرد الأموال قال: بعث زياد مسروقًا واليًا على السلسلة فانطلاق فمات بها. قالوا: فكيف خرج من عمله؟ قال: هل رأيتم الثوب يبعث به إلى القصار فيجد غسله؟ كذلك خرج من عمله.. وفي رواية أنه لم يصب في ولايته إلا ماء دجلة!! أما زياد فكان عامل عمر بن الخطاب على الخراج والأموال والعشور.. وهو زياد بن حيدر.. وكانت السلسلة من أعمال العراق.. وكانت على نهر دجلة.. والقصار هو الرجل الذي يبيض الثياب وينظفها من البقع أو يحسن نظافتها عندما تتسخ. وكانوا يمدون حبلاً وسط النهر فلا تمر مركب ولا قارب إلا عشروه.. وكان مسروق يكره ذلك وكان يقول في آخر أيامه: والله ما أدري ما هذا الحبل الذي لم يضع مثله أبو بكر ولا عمر!! وكان يتمنى أنه لو مات ولم يدخل في هذا العمل! قالوا فما حملك على الدخول فيه؟ قال: لم تدعني نفسي ولا زياد ولا الشيطان حتى دخلت فيه!! قلت لنفسي وأنا أكتب أو أنقل هذه الكلمات يا سبحان الله شتان بين هذا وذاك .. شتان بين مسروق وسارق.. لم يكن مسروق يعرف البدلات.. ولا المخصصات بدل لبس .. وبدل اجازة.. وبدل مكتبة.. وبدل علاج وبدل سكن.. واغفروا لي جهلي ببقية القائمة الطويلة. وهؤلاء أصحاب البدلات والمخصصات يكسبون في شهر ما لا يكسبه أمثالي في عام كامل.. وينفقون في يوم ما لا ينفقه غيرهم في شهر كامل.. وأنا أعني غيرهم من أصحاب اليسار. ومع هذا الإنفاق.. حدِّث عن العمارات والاستثمارات ولا حرج.. وحدث عن العقارات والمزارع والضياع ولا حرج.. وحدث عن الأرصدة والمكتنزات والصكوك ولا حرج.. وكل الذي قلنا فيه «ولا حرج».. فليس مما يمكن أن توفره البدلات والمخصصات.. بل هو مما لا مجال أن يخطر بخلد «مسروق» ولا سارق ليت لنا مسروقًا مثل مسروقهم.. وليت لنا سراقاً مثل سراقهم.. إن نقاد العهد الزاهر الذي مضى كانوا يعيبون على ولاتهم فعل أشياء نحن نعدها اليوم من أعمال أهل الفقر والفاقة.. شكا شاعر أحد الولاة إلى الخليفة.. وزعم أنه قد توسع في الإنفاق.. ولا يقدر على ذلك إلا إذا كان قد مد يده إلى مال الله.. فقال الشعر في أبيات تفتق بالعراق ابو المثنى وعلم قومه أكل الخبيص إن أبا المثنى هو المسكين البائس عندما حدثته نفسه الأمارة بالسوء بأن يتفتق .. وبالله عليكم انظروا إلى تعبير هذا الشاعر اللئيم «تفتق».. لم يجد أبو المثنى في تفتقه إلا الكعك أو الكيك أو لعلها الزلابية أو اللقيمات في ذلك الزمن الغابر. ولعلها كانت نادرة نوعًا ما وإلا لما خصها الشاعر بالذكر وجعلها تحتاج إلى تعلم.. وتحتاج إلى أمير فليست من أكل العامة.. ربما ظن بعض الناس أننا من المتنطعين.. وأن أمثال مسروق لم يُخلقوا لمثل زماننا هذا. وأنا أقول ربما لا أستطيع أن أزعم أن هذا القول خطأ كله.. وأوكد أنني لا أطالب.. ولا يستطيع أحد أن يطالب بمسروق بشحمه ولحمه.. هذا إذا كان له شحم ولحم.. كل الذي نطلبه هو أن تعطونا مسروقنا على سلم القياس «وكل فتاة بأبيها معجبة» والقرد في عين أمه غزال» «وكل زول عاجبه الصارو» وهاكم هذه الآبدة من أوابد الحكم عند أهل الإسلام.. لقد سقط سيدنا عثمان بن عفان شهيداً في تلك الفتنة التي تعرفون.. وكانوا قد نفسوا عليه أشياء.. ومع ذلك حفظ له التاريخ كثيراً من المآثر.. قالوا كان عثمان إذا جاءه ضيف في قصر الحكم أطعمه طعام الإمارة.. وإذا زاره زائر في داره لم يقدم له إلا الخل والزيت.. وأنا والله استحيي من أن أقول هاتوا لنا عثماننا مثل عثمانهم.. كلا والله ولا على سلم القياس نحن لا نطلب إلا ولاة ووزراء بين مسروق.. وسارق لا يرتفعون إلى درجة مسروق.. ولا ينحطّون إلى درجة سارق.. نقبل أن يكون لنا وال أو وزير يركب سيارة فارهة.. واحدة ويسكن منزلاً جميلاً وبه حديقة.. ولكنه ليس ضيعة.. ويلبس كما يلبس الوزراء والولاة.. نقبل أن يكون لنا وزير ووال له مدخرات.. ولكن ليس له مكتنزات ولا أرصدة بالخارج.. نقبل بوال ووزير لا يتفتق في المخصصات ولا البدلات ولا يتفتق في الأطعمة ولا في الأشربة.. ولا يتفتق في المراكب ولا في المساكن.. ولا يتفتق في الأسفار ولا في الرحلات.. ولا يتفتق في الأثاثات لا في المكتب ولا في المنزل.. نريد واليًا ووزيراً يكون قد سمع بمسروق.. فإن لم يكن قد سمع بمسروق.. فلعله أن يرى مسروق.. فمسروق ليس رابع المستحيلات.. أما أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وبقية العشرة وبقية الصحابة فمنع من استنساخهم الوحي.. فقد ثبت أن الله سبحانه وتعالى قد اصطفاهم اصطفاءً ليكونوا وزراء نبيه عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.. فأين أنت يا مسروق؟! أنا أظن أنك تسمعني وتقرأ كلامي هذا!! والمرحلة القادمة هي مرحلة مسروق.. ولو على سلم القياس. ابتهال وضراعة اللهم إني رفعتُ إليك حاجتي وأنت أعلم بها مني اللهم إن كان يسرك إطالتي الدعاء فإنني يسرني منك تعجيل الإجابة اللهم إنك أولى من عبدك بالمعروف