أكثر من عقدين ونيف من السنوات العجاف والمسيرة العسيرة والمثيرة قضتها الإنقاذ وهي تعافر وتكابد، تخرج من جب وتدخل في جب آخر، فتقسو عليها الظروف والعاتيات ثم يأتيها الفرج من حيث تدري ولا تدري، فقد استخدمت كل الحيل والوسائل والأدوات في سبيل تمكين مشروعها الإسلامي الذي جاءت به عشية الثلاثين من يونيو 1989م، بوصفه أول تجربة يألفها السودانيون تزاوج بين السياسة والدين.. مشروع حملته الإنقاذ فكراً ومنهاجاً وبرنامجاً تحت مسمي «المشروع الحضاري» فقد خاصمت ثم تحالفت وعادت مرة أخرها لمربعها الأول. إلا أن الإنقاذ مضت في سبيلها لا تابه ولا تبالي رغم محاولات الضغط والاحتواء والعزل التي انتهجها المجتمع الدولي وبعض قوى الداخل، وشهدت ذات المسيرة محطات فاصلة واحتقانات موجعة أبرزها انشطار صفها الإسلامي الذي جاء بذات المفاهيم التي أرست دولة أهل الإنقاذ. ولأن الأنموذج الإسلامي في السودان شغل المجتمع الدولي كثيراً قبل أهل السودان، فعلى الصعيد الداخلي شهد السودانيون في حقبة الإنقاذ الحالية أكبر عملية تغيير وتحول في الفكر السياسي والاقتصادي والسلوك العام. وكثيرون هم أولئك الذين كانوا يراهنون على سقوط الفكرة الاسلامية التي تسيدت مقاليد السلطة في قصر الرئاسة، ويعتقدون أن أمل السقوط سيتحقق في أول محطة يمر بها قطار الإنقاذ، فالحقبة الزمنية التي قضتها التجربة الإنقادية على مدى ثلاثة وعشرين عاماً كانت في نظر البعض كفيلة بتغيير المفاهيم والأفكار والشخوص والأدوات التي أدارت التجربة، خاصة أن الهزة السياسية والتنظيمية التي ضربت القوى الإسلامية أضعفت التجربة وأرهقتها كثيراً، ولكن يبدو أن الإنقاذ في نسخة ما بعد الانفصال وذهاب الجنوبيين إلى جنوبهم قد اشتدت عليها عوامل الضغط على الحكومة، خصوصاً من داخل الصف الاسلامي الحاكم، فصعدت الى السطح توجهات وتيارات تنادي بالإصلاح وتصحيح المسار ومعالجة المسالب والإخفاقات التي شوهت التجربة وأغضبت الآخرين قبل آل البيت. وبإمعان النظر في الشكل الكلي لدولة الإنقاذ يُلحظ وبوضوح أن الذي يجري الآن ربما يذكِّر المراقبين بأيام الإنقاذ الأولى خاصة في جوانبها الاقتصادية الضاغطة على المواطن، فما أشبه الليلة أشبه بالبارحة، وقد تحتاج التجربة إلى تقويم وجراحات عاجلة وقوة ثورية بذات العنفوان الذي أحدث التغيير في الثلاثين من يونيو، ولكن التحدي الذي يواجه الإنقاذ أنها فقدت شيئاً من بريق المرجعية الفكرية التي كانت دافعها الأقوى في مسيرتها.